منوعات

نصوص من تاريخ التكيف البشري

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحمل الغلاف الباهت القديم، والذي تركت السنوات عليه ملامحها قدمًا عنوان “الأدب الكبير لابن المقفع”، ثم يمضي الغلاف في سطوره حاملا اسم المحقق الأستاذ أحمد زكي باشا ومذيلا بصفته الوظيفية حينئذ بأنه كاتب أسرار مجلس النظار، وهو التعبير الشائع في ذلك الوقت لمجلس الوزراء، ثم يمضي الغلاف بالقول إنها الطبعة الأولى، وأنه طبع بمدرسة محمد على الصناعية بالإسكندرية عام 1912، وهو تعبير تاريخي واضح عن دور المدارس في مجال تحقيق ونشر الكتب فى ذلك الزمان البعيد، نتيجة لمحدودية أعدادها ومحدودية أعداد طلابها وكونها فى البدء بمثابة منارات ثقافية فى المدن التى تنشأ بها تضطلع بمهام ثقافية ومجتمعية إضافة إلى دورها التربوي والتعليمى المتعارف عليه.

يقتطف المحقق مقطعا من محتوى الكتاب يضعه أيضا على الغلاف: “إذا كثر تقلب اللسان رقت حواشيه ولانت عذبته”. في دلالة لا تخطئ على أن التبحر في العلم والمعرفة في مختلف المعارف الإنسانية وعبر مختلف المجتمعات وثقافاتها ولغاتها يصنع ذهنية الفهم والتسامح والتفاعل المؤسس لحوار وتقبل حضاري يكون بنية للتقدم بلغة العولمة المعاصرة وأدواتها.

وفيما يخص الكتاب وصاحبه فحضور ابن المقفع ظاهر في منظومة النثر العربي عبر ما قدمه من تأليف وتعريب متنوع الموضوعات في كتبه، والتي حملتها السنوات ذيوعا وتوالى نشرها في مختلف البلدان، وقد عاش في العصر العباسي بكل ما تضمنه من انفتاح ثقافي وأيضا ما حمله من محن إنسانية وكما طابع الحياة وهى تسير بين ضفتي أمل وألم يتوازيان.

وفي كتابه هذا يقدم خبرته عن السلوكيات والقيم وما تحمله سنوات الحياة وفق ما تجسد في وعيه من فلسفة، وأيضا عبر تمثله لمن قرأ لهم وعبر عنهم، وشكل ذلك منظومة قيم موجهة للحياة ورؤى تصح أن تكون سياق تهذيب اجتماعي ومدونة سلوك.

وقد ضمن في كتابه وحدتين، الأولى وهي ما عرف بالأدب الصغير، وهو الموجه لعموم الناس، والأدب الكبير الذي يتضمن خطابا موجها للخاصة والنخبة وأولي الأمر، وهو ما يجعل منه تعبيرا طبقيا، طالما ظهر في الكثير من كتابات المثقفين العرب عبر الأزمنة، ربما ارتباطا برعاية الأمراء والسلاطين للأدباء والفنون.

والابحار في نصوص هذا الكتاب نزهة للخاطر وصفاء للذهن وعذوبة تسري طيبة، من خلال فرادة اللغة وقوة المعنى وهى حاضرة بينة ومؤثرة، تحتشد وتتجلى في براعة انتقاء اللفظ وتضمين الإيقاع الخفي والظاهر معا.

ففي مجال العيش وسط الناس يقول ابن المقفع بعضا مما صار يسمى في العلوم النفسية المعاصرة بسمات وآليات التكيف: “ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء”.. ثم يمضي معرفا فعل الصبر هنا وداعما له تحملا وعيشا بأنه: “واعلم أن الصبر صبران: صبر المرء على ما يكره، وصبره عما يحب، والصبر على المكروه أكبرهما”.

وفي وصف السلوك غير القويم لبعض تعاملات البشر، والذي هو بعض من طباع الناس عبر كل الأزمنة والأمكنة مهما تغيرت جغرافيتها: “واعلم أن اللئام أصبر أجسادا، وأن الكرام هم أصبر نفوسا، وليس الصبر الممدوح بأن يكون جلد الرجل وقاحا على الضرب، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل، فإنما هذا من صفات الحمير، ولكن الصبر الممدوح أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضراء متجملا، وللحزم مؤْثِرا، وللهوى تاركا، وللمشقة التي يرجو حسن عاقبتها مستخفا، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظبا، ولبصيرته بعزمه منفذا”.

ثم يطرح دليل صفات اللئام بشكل فذ ينفذ إلى أعماق ودخائل النفوس ويعكس أيضا مرارة تجربة تبدو شخصية تداخلنا روائحها حضورا عبر الكلمات: “من علامات اللئيم المخادع أن يكون حسن القول سيئ الفعل، بعيد الغضب قريب الحسد، حمول الفحش مجازيا بالحقد، متكلفا للجود، متوسعا فيما ليس له، ضيقا فيما يملك”.

ويستمر ابن المقفع في بناء مدونة سلوك البشر تكيفا بلا ضغينة أو غضب، حتى لتحسب أنه تعلم ألا يحزنه شيء، فكل شيء عنده هكذا وارد في معايشة الناس، نقول إن ذلك يأتي منه فيما يشبه اليأس من الطبائع وتغييرها، ومن ثم يتحول للذات ويحملها وحدها مشقة إدارة ما يقع عليها ويطرأ بها: “وليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم”، ويستكمل كيفية مغالبة الذات التي يأتي عليها كثيرا فى كتاب أدبه لتتعايش تكيفا وكأنها وحدها مسؤولة عن حسن تنظيم الكون خارجها: “عود نفسك السخاء، واعلم أنه سخاءان: سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس.. فإن هو جمعهما فبذل وعفَّ فقد استكمل الجود والكرم”.

ويتطرق ابن المقفع لشيء بهي من آداب الحضور في المجالس، حيث يقدم توجيها عميقا دالا لكيف تكون بين الناس وجودا أو عبورا أو مشاركة وكيف تتخير مجالسك إن استطعت وكيف تتواجد فيها حين يكون ذلك لزاما: “لا تجالسن امرأ بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعيي بالبيان لم تزد على أن تُضيع عِلمك، وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف”.

وفيما يخص الصداقة والأصدقاء يطوف بنا ابن المقفع في حدائقه، وحيث أرى وربما على عكس البعض ممن رأى أن كثيرا مما جلبه هو من حكمة وفلسفة المجتمعات والكتب التي قرأها وعربها، أرى أن الرجل فيما أحب وقرأ ونقل وكتب قد رشحه بمصفاة ذاته وقاسه على ميزان روحه وتجارب حياته وما عاشه، ودلل عليه من وقائع – كما يتضح أسفا وندما ويأسا من الناس في كثير من النصوص – خبرته وتجربته، وحتى أنه ليمكن القول أنه ليس فقط كتاب الأدب كبيره وصغيره، بل هو كتاب عن تأملات واستخلاصات من سيرة حياة ابن المقفع ذاته، ويمضي في مجال تعريف انتقاء القول وتقريب الناس وصناعة الأصدقاء وبقائهم أو زوالهم عبر مقياس مبدع رشيق الخطوات: “واعلم أن انقباضك عن الناسي يكسبك العداوة، وأن انبساطك إليهم يكسبك صديق السوء، وسوء الأصدقاء أضر من بغض الأعداء”.

ربما يكون جميلا أن نختتم هذا الابحار الجميل عن كيف تحيا واثقا مما تحب راضيا عما تفعل وفق مدونة سلوك ابن المقفع، ومتجاهلا ما يعكرك طالما كنت تبتغي الصواب سبيلا وميزان الحق والقانون طريقا: “إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك .. فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل؛ فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى