جورج إسحق
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
من النماذج البارزة، وأحد المناضلين الحقيقيين الذين رحلوا في صمت، وبلا ضجيج، جورج إسحق، هذا الرمز الذي عشق مصر وأحبها حبًّا حقيقيًّا فيه نوع من التجرد والزهد، ولم يسع وراء المناصب، ولم يلهث خلف المكاسب؛ لأنه آمن إيمانًا حقيقيًّا بحق الإنسان المصري في أن يحيا حياة كريمة.
كان جورج إسحق نجمًا من نجوم مدرسة (كفاية) التي كانت الشرارة والانطلاقة الأولى ضد التوريث وأى توريث آخر، وكان معه المرحوم الدكتور عبدالوهاب المسيري وغيرهما من الشخصيات المحترمة، هذه الأيقونات الإنسانية هى التي حاولت أن توقف وتمنع سقوط سفينة الوطن، وأن تحميها من الغرق والانحدار إلى الأعماق، فكانت صرخة (كفاية) التي تمثل بداية حقيقية لنضال جيل آمن بالثوابت القومية، والأهم الثوابت الإنسانية، وحققت الهدف منها عبر شعار بسيط وعميق.
رغم وطنية جورج إسحق وتسامحه البارز في الصورة الشهيرة بميدان التحرير وهو يحرس المصلين فإن الجماعات الظلامية التكفيرية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، اعتبرته صوتًا لا بد من إسكاته وإخماده؛ لأنه كان قادمًا من بلد النضال والبطولات بورسعيد، ومن خلفية تعليمية حقيقية، فهو كان مدرسًا يعي ويفهم قيمة مصر تاريخها وحضارتها وجغرافية المكان والزمان والأشخاص، فعملت هذه الجماعات بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية على إسقاطه فى انتخابات مجلس الشعب في بورسعيد؛ لكنه لم ييأس ولم يخفض صوته.. وأتذكر أن هذا المناضل الحقيقي، جورج إسحق، كان أول المهنئين لى شخصيًّا في انتخابات برلمان 2015، وجاء صوته فرحًا سعيدًا بأن هناك أشخاصًا سينضمون تحت قبة البرلمان للتعبير عن معاناة المواطن والوطن.
عرفت هذا الرجل الراقى الإنسان الذى يُعتبر مدرسة سياسية ويتبنى الواقعية السياسية بالمفهوم الشامل بعيدًا عن النظريات والشعارات والهتافات والتربح أثناء ثورة يناير، وشارع القصر العينى شاهد، ونحن نتبعه كأستاذ ومربٍّ ومناضل حقيقى يقاوم الغازات المسيلة للدموع في أخطر مرحلة، وكان جورج إسحق يقوم بحراسة المصلين في ميدان التحرير حراسة معنوية بالمفهوم الحقيقى، ويساعد كل العناصر الوطنية.
جاءت إليه عضوية مجلس (حقوق الإنسان) ولم يسع إليها، ولكنه أصبح أحد الأعمدة الرئيسية فى المجلس القومي لحقوق الإنسان، وكان يسعى دائمًا للإفراج عن المحبوسين احتياطيًّا، قبل تشكيل اللجان وقبل الكلام عن هذا الموضوع، وكان هذا هو همه الشاغل، الإفراج عن المحتجزين بسبب آرائهم وأفكارهم، بل إنهم كانوا قضيته الأولى والأخيرة.
والأخطر في هذا الرجل أنه لم يترك أى مناسبة اجتماعية إلا وتجده مشاركًا فيها مشاركة فعالة، وكان مسجد عمر مكرم في مرحلة من المراحل هو مركز لقاءاته بمحبيه، واطمئنانه على الجميع تليفونيًّا، ورغم أن سنه كانت كبيرة وقتها فإن أفعاله وتصرفاته كانت مليئة بالحيوية وحب الحياة للدفاع عن هذا الوطن العزيز.
ورغم تضييق الخناق عليه في مرحلة من المراحل، فإنه لم يفكر مثل الآخرين أن يغادر مصر، رغم الإغراءات الكثيرة، وتحمل الكثير والكثير، وكان صوته دائمًا عاليًا من داخل مصر ورفض فكرة الاستقواء بالسفارات الأجنبية من الداخل أو الخارج، كما يفعل المدّعون الجدد، وظل على موقفه مدافعًا صلبًا عن كل ذى حق في الحياة، طالما أنه لم يحمل القنابل، أو ينتمِ إلى تنظيمات إرهابية.
هذا الرجل- رغم أن صفحات العزاء خلت من اسمه، وهذه قيمة الكبار وليس الصغار الذين تمتلئ بهم صفحات الأهرام بالتعازي- لا نملك إلا أن ندعو له كواحد من أبرز مناضلي هذا الوطن الحبيب الساكن قلوب عشاقه.
إنه جورج إسحق.. الذي قال لنا جميعًا
(كفاية).