منوعات

ترددٌ في الصواب وسرعةٌ في الخطأ!

في نصوصه المسرحية “ترددٌ في الصواب وسرعةٌ في الخطأ” يقدم الروائي والكاتب المسرحي السوري راهيم حساوي (دار موزاييك، اسطنبول، 2021)، رؤية مغايرة للعلاقات الإنسانية.

وهو يؤكد في مسرحياته أن الحكاية في شكلها البسيط هي التربة التي لا نبات بدونها، ولا مكان لجماليات لغوية أو أسلوبية في غيابها.

يمارس راهيم حساوي اللعب الفني الذكي المشغول على كل ما هو غائمٌ وضبابي في هذه الحياة.

يخوض الكاتب ذلك الرهان على أن تتقصى الكتابة الإبداعية تلك المساحة الضبابية بين الصورة المسطحة الثابتة والأصل المتحرك المراوغ المتعدد الأبعاد والأوجه، وأن تكون الكتابة كشفية الطابع تتناول الحالات البرزخية واللحظات المتذبذبة الغامضة الكائنة بين الواقع والوهم، والحقيقة والخيال والوعي واللا معقول والصدق والزيف ولا تهمل أيضًا الأحلام والأساطير والسحر والهذيان، ومقولات العرافات والمنجمين وكل ما هو شائق ومثير وملغز.

ويتعيّن القول إن تلك الوحدة العضوية التي تطبع مجمل أعمال راهيم حساوي، هي وحدة تتأسس على مجموعة من السمات؛ إذ إن كتاباته تحمل في طياتها إشارة واضحة ومتواصلة إلى وجود ذلك التهديد الخفي الذي يحيط دائمًا بحياة البشر في الزمن الحديث، ومن أهمها أيضًا أنها كتابة عن غياب التواصل الحقيقي، من طريق الحوار أو المواقف، في العلاقة بين البشر، ويحضر، بدلًا من ذلك وفي صورة دائمة، غرباء عابرون أو متطفلون غامضون. ومن هنا يبدو الغياب في الدرجة الأولى، في هذه الكتابة شديدة الحداثة التي تنهل من كافكا وليس هذا من قبيل المصادفة، يبدو الغياب غياب المعنى قبل أي شيء آخر.

لا تعدو الشخصيات في مسرحية “الرخام” أن تكون 4، هم: الزوج والزوجة والجارة والزائرة، لكن راهيم حساوي يضفر الأحداث والتفاعل بين هذه الشخصيات ببراعة، ويتقن فن إدارة الحوار حتى وإن كان عبثيًا، من عينة النقاش الدائر بين الزوجين اللذين في أواخر الستينيات من العمر:

“الزوجة )ترتشف رشفة شاي): أوه! إنه ساخن أكثر مما ينبغي، سأنتظر حتى يصبح فاترًا، (تنظر إلى زوجها) أقول فاترًا، وليس باردًا، لا أحب الشاي باردًا،

(صمت(،

الشاي البارد يجعلني أشعر بالشيخوخة .

الزوج )يختلس نظرة إليها): الشيخوخة! (يعاود النظر إلى الأعلى وهو يتمتم).

الزوجة: الشيخوخة التي تسبق الموت، سمعت ذلك من جدتي حين قالت لأمي إن الشيخوخة تسبق الموت، كنت صغيرة حينها

الزوج )ورأسه للأعلى): الموت لا يعترف بالشيخوخة أيتها الخرفة، أعرف شابًا مات وهو في ريعان الشباب، وأعرف زوجة أحدهم وضعت مولودًا ميتًا.

الزوجة: لا علاقة لي بالشاب ولا بالمولود، أنا هي أنا، لست شابًا ولست مولودًا .

الزوج (ينظر إليها): ولكن كان بالإمكان أن تكوني ذاك الشاب أو ذاك المولود، الأمر بسيط للغاية.

الزوجة: كان بالإمكان أن يكون الشاب أنا!، أو أن يكون المولود هو أنا!، وكيف ذلك؟ تخيل لو كان الشاب هو أنا، هذا يعني أنك ستكون قد تزوجتَ شابًا” (ص 9).

وحين يتهمها الزوج بالجهل، ترد الزوجة قائلة:

“إنك تجيد قذف التهم كما الصيادين الفاشلين، لم تعد تستطيع التركيز، وأقول لم تعد وذلك كي أمنحك شيئًا من المجاملة، فأنت لم تكن تملك شيئًا من التركيز طوال حياتك، أنت من قال لي هذا، أليس كذلك؟” (ص 10).

يدور جدلٌ بين الزوجين حول إصلاح رخام البيت وتحديد مكان الرخامة المتسخة المطلوب إصلاحها، ويذهبان لمعاينة المكان، وحين يعودان، تتغير النبرة قليلًا:

الزوج: كلانا على صواب .

الزوجة: سوء تفاهم لا أكثر .

الزوج (يجلس): نعم هو سوء تفاهم، ولكن أخشى ألا يكون بسيطًا” (ص 12).

تعاود الزوجة الرد على حديث زوجها، فتقول له:

“الزوجة: إنك مضخة اتهامات باطلة ومطلية بألوانٍ تكاد تكون كألوان هذا الرخام المتعب” (ص 14).

لاحقًايتكرر حديث حول رغبة الزوجين من الانتهاء من مخطط إصلاح الرخام قبل أن يموتا، في إشارة إلى شعورهما بضيق الوقت بالنظر إلى تقدمهما في العمر.

ويقول الزوج “حقًا إن هذ ا الرخام كما الثياب التي تأبى أن تجف، منذ زمن طويل ونحن ننتظر جفافها، إننا عُراة، وسنبقى عراة إلى أن تجف هذه الثياب، لا وقت لنا لهدر الوقت، )بحنق( يجب أن ننتهي” (ص 34).

وحين تزورهما الجارة، تبدأ لعبة الادعاء والتظاهر، وسط محاولات لمعرفة ما يدور في ذهن الطرف الآخر:

” الجارة: مرحبًا، أرجو ألا أكون قد أتيت بوقت غير مناسب، شعرت أنكما بحاجةٍ لأحد يسليكما في فراغكما .

الزوجة: فراغ! أي فراغٍ تتحدثين عنه (تنظر لزوجها) تقول: فراغ !

الزوج (يهز رأسه بضجر): (فراغ!) يغمز زوجته (نعم، نعم فراغ) للجارة (تناولنا الطعام وتحدَّثنا وشربنا الشاي، وأخرجنا الملابس التي تحتاج للغسيل (لزوجته( أليس كذلك .

الزوجة: نعم، نعم، وتبادلنا بعض الأحاجي والحكايات (بخجل) والكثير من النكت البذيئة .

الزوج: وبعد هذا كله جلسنا ننتظر أحدًا ما يُخلِّصنا من الفراغ ويسلينا.

الجارة (وهي ترمق رخام الصالون): أهذا كل ما فعلتماه؟

الزوجة: نعم وربما هناك أشياء أخرى لا أذكرها، نعم، نعم تذكرت وشربنا الشاي من كوب واحد كما يفعل العشاق” (ص 21).

“إن الرخام نبتة مخدرة” (ص 38).

بهذه الجمل الدالة، التي تجعلك تدور حول نفسك وأنت تقرأ لراهيم حساوي، تكتشف تفاهة الحياة، وصراعات الناس حول قضايا معينة، وسط شعورهم بالعجز عن عدم إنجاز ما يخططون لفعله.

يجيد راهيم حساوي وصف التفاصيل ومن ذلك قوله بعد ترديد الزوجين أكاذيب حول إصلاح الرخام أمام الجارة:

“)يضحك الزوجان ضحكة جافة، وحين يتوقفان عن الضحك، تضحك الجارة ضحكة جافة، وحين تتوقف عن الضحك، يضحك الزوج ثم الزوجة ثم الجارة، تتحد ضحكتهم ببعضها لتشكل نشيجًا يتكسر رويدًا رويدًا على صخور النظرات المتبادلة فيما بينهم)” (ص 25).

يحدث سوء تفاهم آخر بين الزوجين والجارة، حين تطلب منهما استعارة شيئًا فيتسرعان بالقول إنهما لا يمكنهما إعارتها مخطط الرخام الخااص بهما، فإذا بها تطلب شيئًا آخر: قصافة (أو قصاصة) أظافر!

يتحوَّل المشهد إلى العبث والسخرية، فيزعم الزوجان أنهما لا يستخدمان قصافة أظافر:

“الجارة: وأظافركما؟

الزوج (يضحك): نقضمها بأسناننا على الدوام” (ص 29).

أما الشخصية الرابعة، وهي الزائرة، فنكتشف أيضًا أنها ضالعة في محور قلق الجميع: الرخام؛ إذ تقول للجميع:

“أكاد أن أتقيأ صورًا من الرخام” (ص 36).

يختم راهيم حساوي نصه المسرحي بطريقة تستحق التأمل:

“الزوج (يأخذ القصاصة): لديَّ فكرة جميلة، هيا، قمن بوضع أصابع أيديكن التي بقيت دون قص بجانب بعضها، وأنا سوف أقوم بقص أظافركن إظفرًا إظفرًا دون تحيز.

الزوجة: لكن أنا زوجتك، ولا ينبغي أن تعاملني بالمثل.

الزوج: أنتِ زوجتي نعم، لكن الأصابع واحدة ولا ينبغي أن نفرق بينها، كل الأصابع في العالم واحدة.

الزوجة (للجارة والزائرة): هل هذا صحيح؟

الزائرة: نعم.

الجارة: نعم، نعم.

الزوجة: حسنًا.

(يقمن الثلاثة بوضع أصابعهن على الطاولة بجانب بعضها ويقوم الزوج بقص أظافرهن بهدوء والصمت يخيم على المكان والوجوه شبه محنطة لا تبدو عليها أية ملامح(” (ص 44).

في مونودراما “كرة البينغ بونغ”، نحن أمام رجلٍ في الخامسة والأربعين من العمر، داخل قبو توجد به طاولة بينغ بونغ وعدة كرات بيضاء للعبة. ها هو ذان يتحدّث أمام غرفة مستأجر، ويطلب منه مشاركته اللعب. يقول الرجل وهو يحادث المستأجر الغائب الحاضر:

“حين نلعب البينغ بونغ أرى هذا في عينيك في أغلب الأحيان، حتى حين تقول لي (رائع) أشعر بالمرارة لأجلك، أفهم جيدًا الفرق بين التشجيع وبين الرياء، تريدني أنْ أشعر بالسعادة كي لا يبدو علي الغضب أثناء اللعب، كي لا أصرخ في الهواء، وكل الهواء الذي في القبو هو ملك لي، وهذا يجعلك هزيلًا بينك وبين نفسك” (ص 49).

يمارس الملك مع المستأجر لعبة السلطة أو ربما التسلط، فيقول له:

” لو أن هذه الغرفة لك لعرفتَ معنى متعة لعب البينغ بونغ جيدًا، على الأقل ستمتلك الرغبة في حينها لدعوتي للعب، هل لاحظتَ أنه لم يسبق لك أنْ دعوتني للعب! في كل المرات أنا الذي يدعوك” (ص 53).

ربما كانت الكلمات المفتاحية في هذه المونودراما تتمثل في عبارات:

“أنت وحيد، وأنا كذلك، ولقاء الوحيد مع الوحيد شعور يؤجج الوحدة” و”بعض التنازلات لا علاقة لها بالكرامة، تتعلق فقط بمشاعر الوحدة والوحشة” (ص 54)، و”ثمة شبه كبير بين كرة البينغ بونغ والكرة الأرضية، الهشاشة، انظر من حولك، كل ما نراه يتصف بالهشاشة، إنهم يكسرون الكرة الأرضية مثلما كان العقيد يكسر كرات البينغ بونغ كلما غضب مني أو من النتيجة” (ص 56).

في نص “السيدة العانس” يفاجئك راهيم حساوي في تقديمه بالقول:

“يُفترض أن تكون هذه المسرحية مكوَّنة من عدد كبير من الفصول.. وهذا النص يمثل الفصل الأخير لتلك الفصول، لأننا أّكثر ما ندركه من حياتنا ذلك الفصل المتعلق بالنهاية” (ص 60).

نحن في هذا النص المسرحي أمام 5 شخصيات: سيد متجر الأحذية، الأرملة العوراء، ابن القبو، ابن القمل، السيدة العانس.

تدور الأحداث أولًا في متجر أحذية، بجدران متشققة، رمادية اللون، وباب رئيسي، ثم تنتقل إلى صالون منزل السيدة العانس، حيث ممر يفضي إلى باب المنزل الرئيسي، وباب غرفة نوم.

بابان متقابلان يتوسطان الممر ،

تأمل حديث الأرملة العوراء مع سيد المتجر:

“الأرملة العوراء: إن الأحذية التي أعطيتني إياها، بدأ الماء يتسرب إلى داخلها بسهولة كما يتسرب الظلام في عيني هذه (تشير إلى عينها السليمة” (ص 67).

في لعبة الغواية بين الاثنين، نقرأ:

“الأرملة العوراء: وأية بوصلة شمطاء حثت ثعابين الليل على الزحف في أوردتك.

سيد المتجر: لماذا تصرين على إشعالي يا امرأة؟

الأرملة العوراء: كي تطفئك السيدة العانس” (ص 70).

ينتهي النصر المسرحي على نحو مفاجئ:

“ابن القبو (يصرخ من داخل القبو): سنموء، سنموء معًا، وداعًا أيتها الأحذية.

“ابن القمل (يصرخ من داخل القبو): سيموء، سنموء معًا، وداعًا أيها القمل” (ص 89).

في النص المسرحي الأخير، وتحت عنوان “كيف فعلت هذا؟”، يدور الحوار بين زوجة وزوجها في منزلهما القروي؛ إذ تحاول إيقاظه من نومه في يوم عطلة الأسبوع، وحين يطلب منها إعداد الطعام، يتذكران أنها عطلة الأسبوع وأن صياد الطيور سيأتي ومعه الطيور اللازمة لإطعام الزوجين والابنة.

في سياق المسرحية يدور حوارٌ أو جدالٌ بين الثلاثة كالتالي:

“الابنة: الصياد تأخر وبدأتُ أشعر بال وع .

الزوج: بل بالقلق، نعم هذا ما أردتُ قولهُ ، بدأتُ أشعر بالقلق، أو ربما بالجوع كما قلتِّ يا ابنتي .

الزوجة: قلتُ لكما إني أخشى أن يكون الصياد قد تعرَّف على غيرنا، وربُّما الآن هم يأكلون لحم الطيور التي يفترض أن تكون لنا نحن، لا سوانا.

الابنة: أو ربُّما هم الآن ينتفون ريش الطيور ريشة ريشة.

الزوج: أو ربَّما أنَّهُ لم يصطد شيئًا وذهب إلى بيته، أليس كذلك؟” (ص 102).

وحين يظهر الصياد مع صيده الوفير، وبعد حوارٍ مطول حول الصيد وغيره، يفاجئنا الصياد بإطلاق النار على ساق الزوج وساق الزوجة، وسط تساؤل الابنة المصدومة الذي يظل يرن في آذاننا “كيف فعلت هذا؟” (ص 113).

صوت راهيم حساوي في مسرحياته، هو نداءٌ أخير لإنقاذ الإنسانية من كل هذا الجنون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى