منوعات

الذكاء الاصطناعي في الصحافة.. أوهام “شبيك لبيك”

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يظن البعض في مجال الصحافة، أنه قد يصادف جنّي الفانوس لينفذ له ما يريد، وسط ضجيج المبالغة حول الموجة الأخيرة من استخدامات الذكاء الاصطناعي “الذكاء الاصطناعي التوليدي”، وأن ضغطة زر قد تصل به إلى مراده دون عناء؛ لأن الصحافة، وفق التصور القاصر، باتت على أطراف الأصابع!

من فرط السذاجة أن يظن أحد ذلك، إلا إذا كان دخيلًا على هذه المهنة، أو تنقصه الجدارة، أو لا يملك فهمًا لمعاني الصحافة الرفيعة، أو مجرد مرتجل في مهنة الحقيقة يجيد إخفاء قدراته المحدودة خلف لافتات عريضة!

نحن نعيش لحظة مُشوّشة، من جراء حصار الإلحاح على مفهوم “شبيك لبيك” من هؤلاء المبالغين، الذين لم ينخرطوا يومًا في إنتاج صحفي يحترم العُمق والقيمة والجودة، ولا يدركون كُنه الصحافة وهذا العمل الإبداعي في الأساس.

أرغب في رسم صورة حقيقية واقعية حتى لا نرى الأمر من باب المخاوف فقط، ولهذا سأكون أيضًا مشجعًا وداعمًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة، ولكن من باب الحكمة والتعقّل؛ استخدام العارفين وليس استخدامات الخداع والإتيان بممارسات تخالف المهنة أو الاحتيال باسم الذكاء الاصطناعي، والاختباء وراء شعارات خادعة باسم التحديث!

ما يجب أن نعلمه أولاً

لا يستطيع الناس أن يفرّقوا بين المراحل التي مر بها الذكاء الاصطناعي، لكي يدركوا ما وصلت إليه التقنية، وهو ما يستغله بعض محتالي الذكاء الاصطناعي، هناك فلسفة وتاريخ للتطور بدأ من الخمسينيات؛ مرحلة “أنبياء الذكاء الاصطناعي”، أي جون مكارثي ورفاقه الأربعة.

بعد هذه المرحلة جرت في النهر مياه كثيرة، حتى وصلنا إلى مرحلة الخوارزميات التي تشكل وجودنا الالكتروني، ثم برامج المساعدة الصوتية الذكية؛ مثل سيري واليكسا وكورتانا، بصمات الأصابع والوجوه لفتح هواتفنا المحمولة، وكذلك السيارات ذاتية القيادة والطائرات المُسيّرة، حتى مرحلة الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ مثل “روبوتات المحادثة” وهي الموجة الصاخبة الحالية، بكل ما تحمله من فرص ومخاطر أيضًا.

ولهذا يجب أن نتبيّن المراحل لكي نفهم ونعي ونعلم ولا يستغلنا أحدهم!

هذه هي الفرص.. ولكن!

هناك فرص في الذكاء الاصطناعي، ومعها أيضا تهديدات تتكشف يومًا بعد يوم. أما الفرص التي يعكسها الذكاء الاصطناعي للصحفيين، فهي كثيرة، وفلسفتها المساعدة وليس الاستبدال للبشر، في مجال التدقيق والتحقق من المعلومات والصور والمحتوى المرئي؛ برمجيات ترشيحات القراءة وتجارب الاستخدام، أدوات تحليل المحتوى المنشور على منصات التواصل الاجتماعي، تطبيقات المراجعة اللغوية والترجمة للنصوص، تطبيقات الجمع والتحليل في صحافة البيانات، خدمات الإشعارات والتنبيهات للمحتوى والنشر، بعض عمليات الجمع التقليدية للأخبار، أدوات جوجل للسرد البصري، وتطبيقات معالجة وتحرير الصوت والصورة والفيديو، وأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي بشرط الالتزام بمعايير الصحافة.

هل تقتل المعرفة؟

في كتابه “نهاية الإنسان” يقول فرانسيس فوكوياما “إننا على ما يبدو نحيا في جوف مرحلة هائلة من التقدم في علوم الحياة، ليس ثمة نهاية منظورة للعلم، لكن التاريخ؛ تاريخ الإنسان الذي نعرفه، قد ينتهي مع تقدم العالم”.

هذه مخاوف سجّلها فوكويوما قبل أكثر من 10 سنوات، لكنها مع “جيفري هينتون”، الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، كانت واقعًا عندما قرر تقديم استقالته مؤخرًا من جوجل، ليكون ما قاله عن مخاطره زلزالاً، يمثل بداية مرحلة فاصلة في تاريخ نظرة العالم للذكاء الاصطناعي، خصوصًا موجته الأخيرة “شات جي بي تي وإخوته”.

رغم مخاوف فوكوياما واستقالة “هينتون”؛ أجدني على يقين بأن التهديد للصحافة، لن يمسّ أصل هذه المهنة، رغم المخاوف المبررة على الحقيقة والإبداع؛ لأنه ستظل هناك قصص لن تستطيع الروبوتات أن ترويها، وإذا كان هناك استخدام للذكاء الاصطناعي في عمليات تقليدية في جمع الأخبار أو صحافة الترفيه والخدمات وملاحقة حسابات المشاهير، فهو استخدام محفوف دائمًا بمخاطر عقاب الخوارزميات وأشباح الملكية الفكرية، وإذا وجد الناسخون أو الجامعون أو لصوص المحتوى في روبوتات المحادثة ملاذًا آمنًا، فهنا البناء كبيت العنكبوت وإنّ “أوهن البيوت لبيت العنكبوت”.

هل هناك غباء اصطناعي؟

قبل التطور الهائل في روبوتات المحادثة، جرى استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات جمع الأخبار، وأنتج كثيرًا ألوانًا من الغباء، تدخلت بعض المنصات في النصوص لتكون صالحة للقراءة، وتركته منصات أخرى ساذجة كما هو، دون تدخل أو تصحيح أو مراجعة، سأعطيك مثالاً عزيزي القارئ، لو كتب أحدهم خبرًا عن أحد البنوك التي تقدم قروضًا للمواطنين، فهل يصح أن يستدعي الذكاء الاصطناعي في خلفية الخبر أن فرع البنك في مدينة ما قد سرقه مسلحون، أو يضع في الخلفية فقرة أخرى عن زفاف ابنة رئيس البنك أو أحد كبار المتعاملين معه، هذا لا يصح مطلقًا في الصحافة، فالخلفية يجب أن تتصل اتصالاً مباشرًا بقصة الخبر، ولا يمكن أن نغذّي برمجية بتعقب كلمة أو اسم ما لنحشد جميع الخلفيات سواء المباشرة أو غير المباشرة، فنخرج الخبر عن سياقه ونشوّش عقل القارئ ونقدم لونًا من الصحافة الرديئة. أليس هذا نوعًا من الغباء الاصطناعي وإهانة لقواعد الكتابة الصحفية؟!

أؤمن أن التهديد الفعلي من التكنولوجيا ليس تلك الآلات والأدوات، بل تأطير الإنسان، كما يقول الفيلسوف الألماني مارتن هيديجر “عندما ينكر عليه أن يطرق وحيًا أكثر إبداعًا لخبر نداء حقيقة أكثر عمقًا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى