الدولة المصرية بين المُتخيل الثوري والواقعي
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
لا يمكن للإنسان أن يختار الزمن الذي يعيش فيه، وقد كُتب علينا أن نعيش في هذه السنوات الصعبة والمضطربة من تاريخ مصر والمنطقة والعالم، وهي فترة شهدت قيام ثورات شعبية غير متوقعة، وانهيار أنظمة ودول، وهزات اقتصادية، وبداية تَشكل تاريخ ووضع جديدين في المنطقة والعالم.
وأظن أنه لا سبيل لنا في مصر للخروج من تلك السنوات الصعبة داخليًا وخارجيًا، ومواجهة تحدياتها ومخاطرها إلا بأن نُعيد لمصر حيويتها وروحها المبدعة وخيالها الخلاق مع وعيها التاريخي والحضاري والسياسي، وأن نسعى لصياغة ملامح مشروع إصلاحي مستقبلي مُتخيل لمصر يتسم بالواقعية بعيدًا عن الأحلام والشطحات النخبوية والثورية.
ونقطة البداية في هذا المشروع هي العمل على تثبيت دعائم الدولة الوطنية التي تأسست على شرعية ثورة يوليو 1952، وتجديد مؤسساتها وإصلاح اقتصادها وتجديد رؤاها وفكرها وأهدافها؛ لأن الدولة الوطنية المدنية هي حصننا الوحيد الباقي للحفاظ على وجودنا وثقافتنا وهويتنا واستقرار وأمن وكرامة شعبنا.
وهذا المشروع الإصلاحي المستقبلي “المُتَخيل” للدولة الوطنية في مصر يحتاج إلى أكبر قدر من الواقعية في تحديد ملامحه وأولوياته وأهدافه. كما يحتاج إلى تحقيق الحد الأدنى من التوافق والإجماع الوطني عليه، كي يشارك جميع المصريين في التسويق له وتنفيذه وحمايته.
ومصطلح” المُتَخيل” في أبسط تعريفاته يعني “القدرة على أن يرى الإنسان في الشيء ما ليس عليه في الظاهر”، أي أن “المُتَخيل” هو إمكانية موجودة لكن غير متحققة، وعدم تحققها في الواقع لا يعني انعدام السبيل والإمكانية لإيجادها.
وبالتالي فإن الإيمان بوجود المُتَخيل في المجال الاجتماعي والسياسي يفتح الباب للإصلاح والتغيير المستمرين عبر الإيمان بأن الواقع وما هو كائن ليس كل شيء، وليس قدرنا الذي لا مفر منه، بل ما ينبغي أن يكون في كل ميدان، ثم السعي بتجرد وإخلاص لتحقيقه على أرض الواقع.
وهنا يجب علينا أن نفرق بين “المُتخيل الثوري” و”المُتخيل الواقعي” كآلية للتغيير والإصلاح؛ فمصطلح “المُتَخيل الثوري” هو إحدى الركائز الأساسية للبناء الفكري الذي أقامه الفيلسوف الفرنسي من أصل يوناني كورنيليوس كاستوياديس (1922 – 1997) في كتابه “تأسيس المجتمع تخيليًا”.
والمُتخيل الثوري عند كورنيليوس كاستوياديس هو أصل كل حياة إنسانية ومنبع لا ينضب للتجديد والإصلاح، بل هو منبع كل إبداع إنساني من مجتمعات ومؤسسات وقواعد وأفكار سياسية.
ويرى كاستوياديس أنه بالاستناد إلى هذا “المُتَخيل الثوري” تكون الذات الإنسانية قادرة على أن تحول نفسها، وأن تعدل هويتها، وأن تسهم في تحويل المجتمع وتغيير نظام العيش والعالم، بما يفضي إلى تأسيس جديد للمجتمع والمؤسسات والقوانين.
وبالتالي إن “المُتَخيل الثوري” هو نشاط خطير يحتاج إلى شجاعة كبيرة في رفض الأمر الواقع، وإلى تملك الأمل في القدرة على التغيير، وقلب كل شيء، وإنجاز كل شيء عبر تحول حاسم في المجتمع.
غير أني أظن أن واقع ما بعد ثورات الربيع العربي الذي عشناه في مصر ومنطقتنا العربية منذ عام 2011، وما لاحقها من فوضى وانهيارات وحروب أهلية، قد جعل أكثر الناس رغبة في الإصلاح والتغيير يكفرون بالمتخيل الثوري وجدواه في تغيير المجتمعات والدول العربية، دون أن يفقدوا في ذات الوقت الحلم بالتغيير والإصلاح لكي يصبح على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
وهذا يفتح الباب عندي للحديث عن “المُتخيل الواقعي” كآلية للإصلاح والتغيير في مقابل “المُتخيل الثوري”، ويهدف هذا المُتخيل الواقعي لتأسيس تصورات فكرية وحركية للإصلاح والتغيير أكثر واقعية وملائمة لطبيعة المجتمع وظروف الدولة ومرحلتها التاريخية، وأكثر قدرة على التحقق والتنفيذ في الواقع.
وهي تصورات يجب أن تضع في اعتبارها قبل كل شيء معطيات الأمن القومي المصري وثوابته، وتُفرق في البداية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وتفرق أيضًا بين ما ينبغي أن نبدأ في تحقيقه مما ينبغي أن يكون في ضوء الإمكانات، وفي ضوء واقع وسياق المنطقة والعالم حولنا.
وأظن أن تلك التفرقة ضرورة فكرية وسياسية لابد أن تراها وتستوعبها وتؤمن بجدواها السلطة مع النخبة والجماعة الوطنية، ولابد أن يسبق الإقرار بها أي دعوة للحوار الوطني وأي دعوة سياسية للإصلاح والتغيير؛ حتى لا نرفع سقف الأحلام والطموحات، ثم نُعيد إنتاج إخفاقات الماضي وتجاربه الفاشلة.