التعذيب الأبيض: من تزمامارت، إيفين، أبوغريب وجوانتانامو.. قصص معذبين “بدون لمس”
بي بي سي
تحذير: يحتوي هذا التقرير على تفاصيل قد يجدها البعض مزعجة.
“طلبت من أحد الحراس إن كان بإمكانه إغلاق الباب بدون رجة، أجابني بهدوء إنها أوامر المدير للتأكد من انغلاقها فعلا، وكثيرا ما رجوناهم من بعد، لكن بعض الساديين منهم كانوا يتلذذون بكل ما يثير غضبنا ويغلقون الأبواب بضجيج أكبر، وقد كنا نعي بأننا نخضع لحرب أعصاب”.
هذا مقطع من مذكرات “تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم” للراحل محمد الرايس، أحد أشهر الناجين من سجن تازمامارت السابق بالمغرب، وهو يروي جانبا من التعذيب “الأبيض” أو النفسي الذي كان يتعرض له إبان الاعتقال، إلى جانب عدد من زملائه العسكريين الذين اتهموا بالمشاركة في محاولتي الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني عامي 1972 و1973.
ما ذكره الرايس في مذكراته يجسد جانبا من معاناة سجناء ومعتقلين في عدد من السجون، أشهرها سجن إيفين بإيران، الذي عرف بممارسته للتعذيب “الأبيض”، وسجن أبو غريب بالعراق، ومعتقل جوانتانامو الذي أنشأته الولايات المتحدة في خليج غوانتانامو في كوبا.
التعذيب الأبيض
التعذيب الأبيض أحد أكثر أساليب التعذيب تأثيرا وضغطا على المعتقلين السياسيين والمنتقدين والمحتجين على السلطة الحاكمة لأنه يعرض نفسية المعتقل لضربات تبقى آثارها لفترة طويلة وربما للأبد، بحسب تقرير أمريكي معنون بـ “نوت اتش تورتشور”، والذي اعتمد على مذكرات تعذيب لمعتقلين، وعلى تقرير للجنة المخابرات بمجلس الشيوخ رفعت عنه السرية سنة 2014.
ارتبط هذا النوع من التعذيب بسجن “إيفين” في إيران، أحد أشهر السجون الإيرانية بعد الثورة عام 1979، اشتهر باحتجازه للمعتقلين السياسيين وسجناء الرأي حتى لقب بـ “جامعة إيفين” من قبل عدد من المعارضين الإيرانيين نظرا لقيمة ضيوفه المعتقلين.
وتطرقت لهذا النوع من التعذيب عدد من المنظمات الحقوقية الدولية من ضمنها منظمة العفو الدولية التي أشارت عام 2004 إلى التعذيب الذي مورس على أحد المعتقلين في سجن إيفين والذي وضع في غرفة بدون نوافذ وكل شيء باللون الأبيض من بينها وجبة الأرز التي تقدم لهم.
وقد ذكر أحد الصحافيين المعتقلين الذين مروا بتجربة التعذيب الأبيض أن أسوأ ما في هذا النوع من التعذيب “أنك لا تستطيع أن تشفى منه حتى بعد إطلاق سراحك”، كما ورد في تقرير العفو الدولية.
ويجري الاعتماد على هذا النوع من التعذيب بغرض صرف نظر مجموعات ودعاة حقوق الإنسان، ومحو ذاكرة المستجوب معه عن طريق عدة تقنيات منها الحرمان من النوم كما ورد في التقرير الأمريكي.
الحرمان من النوم
من بين الأساليب التي استخدمها المحققون في وكالة الاستخبارات الأمريكية مع السجناء في معتقل جوانتنامو هو الحرمان من النوم بحسب ما ورد في تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي، إذ يجبر المعتقلون على البقاء مستيقظين لمدد تصل إلى 180 ساعة وهو ما يعرضهم لاضطرابات نفسية وعقلية.
كما كان المعتقلون يتركون في ظلام تام في غرف معزولة بحسب نفس المصدر، بالإضافة إلى التهديد بالاعتداء الجنسي والإذلال، إذ ذكر التقرير أن أحد مسؤولي وكالة المخابرات الأمريكية وجه تهديدات لمعتقلين بإيذاء ذويهم، بما في ذلك تهديد أحد المعتقلين بالاعتداء جنسيا على والدته، وتهديد آخر بنحر والدته.
من أساليب التعذيب التي ذكرت في التقرير، تصوير المعتقل عاريا وإجبار السجناء على لبس الحفاظات ومنعهم من الذهاب لدورات المياه.
تقول المحامية والحقوقية العراقية شيرين زنكنة لبي بي سي، من خلال تعاملها المباشر مع عدد من السجناء والمعتقلين، وزياراتها لعدد من السجون، تحفظت عن ذكر أسمائها لأسباب مهنية، إن هنالك أساليب يتم اعتمادها لإلحاق أذى نفسي بالسجناء، يشمل “الإيحاء بأن الشخص على وشك أن يتم قتله، والحبس الانفرادي والابتزاز وإجبار الشخص بأن يقوم بتعذيب شخص آخر، أو إجباره على مشاهدة اعتداء جنسي أو حرمان الشخص من النوم وحلاقة الشعر وتغطية الرأس”
والغرض من هذه الأساليب انتزاع الاعتراف بقوة من المعتقل أو السجين، تقول شيرين.
وتضيف “من أكثر الأساليب التي يتم اعتمادها أيضا، الاحتفاظ بالضحية في التوقيف لفترات طويلة دون محاكمته وبدون مسوغ مشروع مما يجعله في حالة خوف وقلق دائمين”.
وتردف قائلة “رغم أن العراق انضم لاتفاقية مناهضة التعذيب أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة رقم “30” لسنة 2008، إلا أن القانون لم يُفعّل، ولم يجد طريقه للتنفيذ ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات بحق السجناء”
بالإضافة إلى ذلك “نجد الاكتظاظ والأمراض التي تنتشر في عدد من السجون منها السل والجرب” تقول المحامية العراقية.
الظلام
في مذكراته المعنونة بـ”الزنزانة رقم 10″ التي يسرد فيها تجربته في تزمامارت، يقول أحمد المرزوقي غداة وصولهم إلى أحد أشهر المعتقلات السرية في المغرب، وهو يصف الزنزانة التي شكلت مستقرهم لمدار عقدين من الزمن “..كل زنزانة كانت عبارة عن علبة ضيقة من الإسمنت المسلح، طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترين ونصف، تسبح ليل نهار في ظلام مطبق، اللهم إلا من خيط نور رمادي باهت كان يتسلل في عز النهار من ثقب في السقف فيعكس على أرضية الزنزانة على شكل دائرة صغيرة شاحبة لا تكاد ترى فيها أصابع اليدين إلا بصعوبة شديدة”.
تعصيب العينين والتلاعب بالأعصاب
من أشد اللحظات التي تمر عصيبة على المعتقل، هي اللحظة التي يساق فيها إلى وجهة مجهولة وهو يطرح تساؤلات دون إجابات.
يروي كلا من محمد الرايس ورفيقه في محنة تزمامارت أحمد المرزوقي في مذكراتهما، الطريقة التي جرى بها نقلهم من سجن القنيطرة إلى سجن تازمامارت.
ونطالع فيما كتبه محمد الرايس “..بعد أن فحص كل ملفاتنا بإمعان أعطى الكومندان أوامره بالتنفيذ، عصبوا عيوننا ثم وضعوا الأصفاد في أيدينا ثم ركبونا في شاحنات عسكرية غطيت بعناية…كانت الرحلة الليلية الطويلة مثار حيرتي، طوال المدة قمت بعدة حركات بالحاجبين ونجحت في إزاحة خفيفة للعصابة وتمكنت بهذا من رؤية حراسنا من الدركيين ورجال الأمن”.
وفي سياق متصل، يقول أحمد المرزوقي في تصريح لبي بي سي، إن أبرز موقف ظل عالقا في ذهنه هو لحظة إخبارهم- بعد عصب أعينهم وتصفيد أيديهم- أنه سيلقى بهم من على الطائرة في البحر، “فليتخيل الإنسان موقفا كهذا، فأصعب ما في العذاب هو انتظار العذاب وليس العذاب نفسه”.
وفي حديث لبي بي سي يروي لنا زين، أحد المعتقلين السابقين في ليبيا، تحفظ عن ذكر اسمه بالكامل خوفا على عائلته التي لا تزال حاليا مقيمة بليبيا، فيما لجأ هو سياسيا إلى فرنسا.
تعرض زين للاختطاف عام 2016 بسبب نشاطه الحقوقي المدني وتدويناته عن مواضيع حقوق الإنسان وحقوق المرأة في ليبيا، حسب قوله.
يقول زين “كنت أحضر مؤتمرا يتعلق بحقوق المرأة، فإذا بملثمين محملين بالكلاشنكوف اقتادوني إلى سيارة وأخذوني إلى وجهة مجهولة”
بقي زين ينتقل من مكان لمكان قيد الاعتقال أو الاختطاف، كما يقول، لمدة سنتين وشهر وتسعة أيام قبل أن يتم ترحيله من ليبيا إلى السودان، بلده الأصل.
“لم أكن أعرف أين أنا ولا من هم هؤلاء، وسيناريو القتل كان حاضرا دائما في ذهني، هددوني بالاعتداء الجنسي وبالقتل وهددوني أيضا بإخوتي وعائلتي” يقول زين.
ويضيف “خلال وجودي داخل الزنزانة كنت أسمعهم يتحدثون فيما بينهم، كنت أعرف من خلالهم أين أنا، لأنهم كانوا ينقلونني من مكان لمكان، وكانت آخر محطة لي، سجن التوقيف التابع للمخابرات، أخرجوني منه في سيارة مباشرة إلى المطار لترحيلي إلى السودان”
يستحضر زين كيفية التحقيق معه ويقول: “التحقيق كان يتم بعيون معصبة، في زنزانة مظلمة، مع التجويع الممنهج، إذ يصل الأمر في بعض الأحيان إلى وجبة واحدة ليومين أو أكثر، خصوصا في منطقة تاجوراء التي كانت الأسوأ من حيث المعاملة”.
معاناة زين لم تتوقف بمجرد ترحيله، فبعد وصوله السودان بدأت مرحلة أخرى من التحقيق والضغط النفسي الذي تعرض له، إذ تم التحقيق معه مرة أخرى حول ما جرى معه في ليبيا.
الموسيقى..للتعذيب !
لا يبدو أن الموسيقى وسيلة للترفيه فقط، مجلة “ميديكال ديلي” الأمريكية، نشرت مقالا مفصلا حول استخدام الموسيقى للتعذيب، خاصة إبان الحرب الأمريكية على العراق، باعتبارها نوع من أنواع الحرب النفسية المستخدمة لكسر إرادة السجناء باستخدام الموسيقى الصاخبة أو “الضوضاء البيضاء”.
وجاء في مقال “ميديكال ديلي” أنه بعد ظهور معطيات تفيد بتعذيب المعتقلين من طرف الجيش الأمريكي في سجن أبو غريب في العراق، تبين أنه جرى استخدام التعذيب الصوتي ضد الجنود.
ونطالع في المقال مقطعا مصورا مع أحد الجنود الأمريكيين الذي أدلى بشهادته حول الموضوع ويشرح كيفية استخدام الموسيقى المزعجة من أجل التأثير النفسي على أسرى الحرب في سجن أبوغريب.
وفي هذا الصدد ذكرت المجلة الأمريكية أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي أيه” تتوفر على أشرطة تحتوي عددا من المقاطع الموسيقية المخصصة لهذا الغرض، والصادم في الموضوع أن من بين هذه المقاطع الأغنية الشهيرة للديناصور البنفسجي “بارني” وأغنيته “أنا أحبك” التي يتغنى بها الأطفال.
وقال أحد المعتقلين السابقين في تعليقه عن الموضوع “إنه إذا قمت بتشغيل هذا النوع الموسيقي لمدة 24 ساعة، فإن وظائف الدماغ والجسم تبدأ في الانزلاق، وتبطئ عملية التفكير، وتنكسر إرادتك”.
كما يجري أيضا استخدام مقاطع موسيقية مسيئة للسجين ثقافيا ودينيا وهو ما يؤثر على نفسيته.
هذا النوع من التعذيب ليس بجديد في الواقع، بل تعود جذوره إلى “ثقافة الأزتك” والتي تعتمد على نوع موسيقي يسمى بـ”صافرة الموت”، التي يجري استخدامها قبيل الحرب للتسبب في عدم ارتياح في صفوف عسكري العدو والتأثير على مزاجهم ونفسيتهم.
الإذلال والإهانة
غالبا ما يتعمد الجلاد إشعار ضحيته بأنها لا شيء وبلا قيمة، وهو ما يترك أثرا بليغا في نفسية المعتقل حتى بعد الإفراج عنه.
هذا ما صوره محمد الرايس في مذكراته حينما قال “فإذا ما استثنينا الذين ماتوا والعدد الكبير من الحمقى المصابين بمس، عاد أغلب الناجين من تازمامارت مثخنين بالأمراض النفسية والجسدية، والأقل تضررا مازالوا يحملون إلى الآن آثار السجن المطول والرتيب والعزلة المملة”.
ويضيف الرايس غداة توثيقه لمشهد ظل عالقا في ذاكرته، “بعد أن أخذوا بصماتنا جاء دور المصور الذي وضع على صدري لوحة 14، أي رقم زنزانتي، بعد أن أنهى عمله دفعني بقوة نحو الباب وقال من الآن فصاعدا أصبح اسمك 14، غضبت لمثل هذه المعاملة فأجبته على الفور “كنظن عندي سميتي والطوبيس وحدو عندو أرقام” بما معناه: ” أعتقد أنه لدي اسم، لست بحافلة لترقمني”
يضيف “هكذا بعد 32 سنة على الوجود فقدت وبكل بساطة اسمي، لأن زنزانتي تحمل رقم 14، يا لها من إهانة للبشرية ولكرامة الإنسان”.
العزل الانفرادي
في حديثه معنا يقول عبد الله أعكاو المعتقل السابق في تزامامارت: “كنا نعيش في زنازين معزولة تفتح ثلاث مرات في اليوم، الشمس كانت منعدمة، ويتم منحنا ما يشبه الأكل حتى نموت رويدا رويدا”.
ويردف قائلا: “مقومات الحياة البسيطة والأساسية كانت منعدمة جدا، ومن كان يمرض منا يتم التخلي عنه حتى يموت في زنزانته ليخرجوه في لحافه ويرموه في الحفرة”.
وفي هذا الصدد يقول زميله الرايس “بمجرد أن يقضي عقوبته يلقى به في الخارج وقد جفت ذاكرته ووضعت عليها بطاقة كتب عليها: شخص مروض تائب مدجن.. لكنه نصف أحمق”.
ويقول المرزوقي “نعم كانت معنوياتنا قد نزلت إلى الحضيض وكانت أغلى أمنياتنا أن نموت موتة فجائية تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين ينقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة”.
تشويه السمعة
حول هذا النوع من التعذيب، يقول زين لبي بي سي، إنه من بين التهم التي وجهت له وتم الترويج لها هو “محاولة إفساد المجتمع الليبي بأفكار علمانية، وتلقي مساعدات ودعم من منظمات أجنبية، بالإضافة إلى اتهامي بالإلحاد وبالتجسس”.
يذكر أن قضية اختطاف زين وتعذيبه كانت مثار جدل ونقاش عام في ليبيا، تدخلت فيها منظمات حقوقية دولية قبل أن تتم عملية ترحيله إلى السودان.
وذكر التقرير الأمريكي حول التعذيب غير الملموس أنه من بين الأساليب التي تستخدم في التعذيب النفسي والتي تلجأ إليها الاستخبارات الأمريكية أيضا، هي تشويه سمعة المعارضين عبر البروبجاندا أو الدعاية الإعلامية، واللجوء إلى توظيف حرب المعلومات وعالم الاتصالات الإلكترونية أيضا، من خلال نشر معلومات سلبية بشكل يضر بالهدف وهو المعتقل أو السجين، على غرار المدونين والناشطين والصحفيين والمؤثرين في الحياة الاجتماعية عموما أو أي شخص آخر له صوت ومكانة داخل الرأي العام في المجتمع.
ما بعد التعذيب، عذاب آخر!
ماذا بعد الاعتقال والسجن والتعذيب النفسي؟ سؤال وجهناه لبعض ممن تحدثنا معهم في هذا التقرير.
وفي معرض إجابته يقول عبد الله أعكاو، “عذابنا سيستمر، المعاناة النفسية نتعايش معها وليس لها علاج ولا دواء، هناك من مات من زملائنا بمرض عضال ناتج عن الأزمات النفسية بعد الخروج من تازمامارت”.
ويضيف قائلا ” لم تكن هنالك رغبة حقيقية لإعادة إدماجنا ومعالجتنا نفسيا بعد حوالي عشرين سنة قضيناها في جحيم تزمامارت، لكن ماذا عسانا أن نفعل سوى أن نحاول العيش”
أما زميله المرزوقي فيقول “لم نعد في تزمامارت اليوم، بل حتى تازمامارت لم يعد قائما كمعتقل، لكنه لازال قائما في داخلنا، تزامامارت يعيش فينا وسيبقى، لا شيء باستطاعته أن يخلصنا من كوابيسه التي مازالت تراودنا”.