منوعات

وللسينما العربية والقضية الفلسطينية نصيب في ريتروفاتو الثامن والثلاثين

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

المأساة الفلسطينية حاضرة في الدورة الثامنة والثلاثين من مهرجان ريتروفاتو البولوني العريق والممتد بين ٢٢ يونيو وحتى نهاية الشهر نفسه. هذه ليست المرة الأولى، فقد حضرت فلسطين في الدورة السابقة عبر «المخدوعون» للمصري توفيق صالح – الذي عُرض في حضور زوجة المؤلف غسان كنفاني – حيث استقبل الفيلم والضيفة بحفاوة كبيرة، وبدا التأثر بهما كبيراً ومؤلماً فقضية الفيلم ظلت معاصرة رغم مرور نصف قرن.

واليوم تحضر، أيضاً، القضية الفلسطينية عبر فيلم «الليل» للمخرج السوري القدير محمد ملص الذي ولد عام ١٩٤٥ في القنيطرة على مرتفعات الجولان، والذي أصبح أحد رواد السينما المستقلة في سوريا واشتهر بأن السينما عنده هي أداة للوعي.

فيلم «المخدوعون» مر عليه أكثر من خمسين عاماً، و«الليل» مر على انتاجه أكثر من ثلاثين عاماً، لكنهما يكشفان جذور المأساة الفلسطينية وسبب النكبة والإبادة التي تتعرض لها حالياً، إنها الخيانة.

الفيلمان تم ترميمهما حديثاً عبر الجهود الحثيثة التي يقوم بها «السيناتيك البولوني» ومهرجان ريتروفاتو، وكان من المفترض أن يتم عرض «الليل» في العام الماضي أيضاً، مع تكريم لمخرجه، لكن تم التعطيل بسبب حقوق العرض التي تمتلكها المؤسسة العامة السورية للسينما. إلى أن نجح الأمر أخيراً وسيتم عرض الفيلم هذا العام بحضور مخرجه – ومؤلفه المشارك – في السادس والعشرين من يونيو الساعة الثانية ظهراً في سينما جولي وهي إحدى القاعات الكبيرة التي تُعرض فيها مختارات قسم «سينما الحرية».

«الليل» فيلم من إنتاج عام ١٩٩٢، ويُعتبر تحية إلى مجاهدي فلسطين، إنه صحيح عن صبي أو شاب يحاول تذكر سيرة والده، تلك السيرة التي تختلف تفاصيلها في ذاكرته وفي حكايات الأم، وتتعدد الاختلافات ويتعدد الموت، بأسلوب فانتازي، لكنه لا يغيب عن المتلقي الهدف الأساسي للشريط السينمائي حيث حكايات التعاطف مع جيش الإنقاذ وحكايات السوريون الذي لبوا النداء للجهاد في فلسطين ضمن هذا الجيش الذي تم تفتيته وجُرد جنوده من أسلحتهم. وأثناء ذلك تطرح بعض قصص وتفاصيل الخيانة، وذلك في مدينة القنيطرة – مسقط رأس المخرج – والتي دمرت بعد الحرب الإسرائيلية عام ١٩٦٧. تدور أحداث الفيلم في الأعوام ١٩٣٦ والحرب العربية الإسرائيلية ١٩٤٨.

الفيلم شارك في كتابته كل من مخرجه محمد ملص والمخرج السوري أسامة محمد. هو تجربة شاعرية على مستوى الكتابة والكلمات والسرد وحتى الكادرات البصرية جاءت شاعرية في تكويناتها وتفاصيلها – والقواطع التي تحجب أجزاءً منها – وذلك رغم التقشف والفقر الشديد للبيئة، لكن العين السينمائية للمخرج صنعت فيلما شديد الثراء بجماليات خاصة، وإن كان متأثراً بفيلم «مرآة» للروسي أندريه تاركوفسكي، خصوصا مشهد الحلم والملاءات والأبواب المتعددة، وهذا بالطبع لا يٌقلل من أهمية الفيلم السوري، فالاستلهام في حد ذاته قد يكون تحية للمبدع للروسي الذي كان هو أيضاً يعتبر السينما أداة للوعي ويرفض الانسياق للجمهور أو السينما التجارية، والذي عاش منفياً ومات مقهورا في غربته رغم ابداعه المتفرد.

هذا التأثر أو الاستلهام أيضاً لن يكون غريباً إذا عرفنا أن محمد ملص بعد أن عمل مدرساً- بين عامي ١٩٦٥ و ١٩٦٨ – انتقل إلى موسكو لدراسة الإخراج السينمائي في معهد جيراسيموف للسينما. خلال فترة وجوده بهذا المعهد أخرج الأفلام القصيرة «حلم مدينة صغيرة» و «اليوم السابع» و«الكل في مكانه وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط». بعد عودته إلى سوريا بدأ ملص العمل في التلفزيون السوري. وحقق العديد من الأفلام القصيرة «القنيطرة ٧٤»، عام ١٩٧٤ و«الذاكرة» عام ١٩٧٥ و«فرات» عام ١٩٨٠.

تم عرض فيلمه «الليل» في قسم الفوروم في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وكذلك عُرض قبله بنفس القسم «أحلام المدينة» والذي جاء في عام ٢٠١٣ من بين أفضل ١٠ أفلام في قائمة «أفضل ١٠٠ فيلم عربي».

أما فيلم «الليل» فقد تم حظره في سوريا حتى عام ١٩٩٦، بينما حصل على اعتراف دولي، مثلما فاز بالجائزة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي لعام ١٩٩٢. واليوم يُعرض الفيلم مجدداً أمام الآلاف من الجمهور الإيطالي ومئات الصحفيين والنقاد من مختلف دول العالم، ليكون دليلاً قاطعاً على أن الإبداع خالد، فالمنع سيظل أمراً مؤقتاً، ويؤكد على أن المبدع الحقيقي سيجد الطريق لمناقشة همومه على شاشة السينما، وأنه بقدر إخلاصه بقدر ما سيعيش هذا الفن ويظل معبراً عن آنية القضية.

في مدينة بولونيا الإيطالية التاريخية العريقة، مقر مهرجان ريتروفاتو -التي تضم واحدة من أقدم وأعرق الجامعات في العالم، والتي تتميز بارتفاع نسبة المثقفين وبأنها مدينة اليسار – سيتاح للجمهور أيضاً، مشاهدة أفلام عربية بهذه الدورة ومنها فيلم أسامة محمد «نجوم النهار» والذي سيتبعه «ماستر كلاس» له يوم الجمعة ٢٨ يونيو، بالإضافة إلي احتفاء بالكاتبة والمخرجة الجزائرية آسيا جبار، وتكريم آخر للسينما التونسية وأحد روادها. إنه تكريم حقيقي وجوهري لعدد من رموز السينما العربية، فتحية شكر وتقدير للقائمين على «سينما ريتروفاتو» الثامن والثلاثين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى