معضلة إصلاح الثانوية العامة
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
توحي كلمة “الثانوية العامة” في مصر بوجود حالة من الأزمة وللقلق الذي ينتاب الطلاب وأسرهم وكل البيوت المصرية. فتشعر وكأن المجتمع المصري في حالة تعبئة عامة واستنفار وكأننا مقبلون على معركة كبيرة. كما ترى الأسر المصرية في الثانوية العامة معيارا لتحديد المصير ومقياسا للنجاح أو الفشل.
وهذا الغلو حول أهمية الثانوية العامة انتقل بشكل أو بآخر إلى الدول العربية المجاورة بالتبعية.
وبسبب القلق والتوتر من الثانوية العامة، ونتيجة اعتبارها بوصلة تحديد المصير كثرت حالات الانتحار بسبب الثانوية العامة في الآونة الأخيرة. وتعالت الأصوات بأن ترحم الحكومة ووزارة التربية والتعليم والخبراء المجتمع المصري من شبح الثانوية العامة وأن تخفف من وطأة سنوات الثانوية العامة على الأسر التي لا تملك إمكانات إلحاق أبنائها بالنظم البديلة..
ويبدو أن وزارة التربية والتعليم استمعت أخيراً لنداءات استغاثة المجتمع المصري فأعلنت أن هناك نظاماً جديداً للثانوية العامة سيطبق من العام الدراسي ٢٠٢٤-٢٠٢٥، ولكن عقب إجراء حوار مجتمعي حول هذا المقترح. وقد أعلنت وزارة التربية والتعليم عن أن النظام الجديد يتم بموجبه إلغاء شعبتي الأدبي والعلمي واستبدالهما بأربعة مسارات هي المسار الطبي والمسار الهندسي ومسار الإنسانيات ومسار الذكاء الاصطناعي. ويبدو للوهلة الأولى أننا بدأنا نتحرر من عقدة الثانوية العامة والتقسيم اللامنطقي للعلوم ومعه سنحرر أبناءنا من الخوف والرعب الذي يتجسد في نظام الثانوية العامة منذ عقود طويلة.
وفي هذا الصدد، أشار السيد وزير التربية والتعليم إلى أن المسارات الجديدة تعطي فرصة للطالب لتحسين الأداء من جانب وضمان مكانا في سوق العمل من جانب آخر. وفيما يتعلق بطبيعة الدراسة في كل مسار فقد أشار إلى أن لكل مسار مادتان أساسيتان ومادتان مؤهلتان للالتحاق بكليات معينة.
وحيث أن مرحلة الثانوية العامة هي الجسر الذي يعبر منه الطالب من المرحلة المدرسية إلى المرحلة الجامعية التي تؤهله للحياة العامة، فكان لابد أن تقوم وزارة التربية والتعليم بمعالجة تطوير نظام الثانوية العامة بشكل مختلف ومن منظور يتعدى التركيز على الشكل إلى التركيز على الفكر. لأن أي تغيير أو تطوير يجب أن يحركه فكر ما. ومن الصعب اعتبار التأهيل لسوق العمل فكرا أو تقسيم الشعب إلى مسارات فكرا. لأن الفكر يقتضي النظر إلى الغاية من هذا القرار: فهل الهدف هو التحديث أم التطوير أم ماذا؟ فهل نسعى بالفعل لبناء عقل الطالب وتحريره من جمود التخصص الذي لم يعد يتناسب مع متطلبات الحياة وفلسفة العمل وليس سوق العمل ام ماذا؟ وهل قام السيد الوزير بالنظر إلى تجارب دول العالم التي سبقتنا في التصنيع والتطور الانساني والعلمي في هذا الشأن؟ ففي ألمانيا – على سبيل المثال- لا توجد هذه المسارات بهذا الشكل المنفصل، بل على الطالب في مرحلة الثانوية العامة أن يختار بين ست أو خمس مواد على أن يكون من بينها الرياضيات والعلوم الاجتماعية واللغات كمواد أساسية. ولأن الألمان تأثروا بالفكر الفلسفي والفكر الرياضي فقد انعكس ذلك على فكر مرحلة الثانوية العامة عندهم. وأدلل على ذلك بما قاله أفلاطون لتلامذته “لا يدخل علينا إلا من كان رياضيا”، وقَصَدَ بذلك لا يدخل علينا الأكاديمية التي توازي الجامعة حاليا إلا من درس الرياضيات. فقد جعل أفلاطون من الشرط المعرفي قيدا يقيد به المنتسب / الملتحق بالجامعة لان الرياضيات هي التمرين الوحيد الذي ينقل العقل من الحسي إلى التجريدي أي إلى النظري الخالص، لأن أفلاطون أراد ان يصنع جيلا أثينيا أي جيلا فلسفيا رياضيا. وبالتالي لا تنفصل الرياضيات عن الفلسفة مثلما لا تنفصل الفلسفة عن الميتافيزيقي والذكاء الاصطناعي وكما لا ينفصل الذكاء الاصطناعي والطب عن الإنساني والأخلاقي!
إن الطرح الذي طرحه السيد وزير التربية والتعليم – وهو طرح مازال في أوله ولله الحمد- لا يعكس انتقالا فكريا عما سبق من أنظمة الثانوية العامة التقليدية في بلدنا الحبيب. وعليه، لابد من التريث والمزيد من الدراسة وفهم وتحليل جيد لسوق العمل “المرن” الذي يفتح مجالات رحبة لتعلم ودراسة كل شيء في أي وقت. كما لابد من دراسة التجارب الدولية الناجحة والمستقرة في هذا الشأن دراسة وافية. فنحن لا نريد اسما وشكلاً جديدا للثانوية العامة وإنما نطمح نحو فكر جديد.