كرةُ العالم وأفلاك العلويات .. “القزوينى” وتأسيسات الدهشة
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يعدنا المُضى قراءة لنص القزوينى “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” الذى يعود للقرن السابع الهجرى /الثالث عشر الميلادى بمزيد من لآلئ الفكر ومنثور السرد وصفا لظواهر الكون وكائناته، عبر الحكايات التى يصفها بغريبة وعجيبة، والتى لا تقف عند حدود أساطير القول الشائعة فى عصره عن الكائنات فهذا ليس أصل المتن وإن تواجدت حينا، لكنها تعنى بالحالة الإنسانية المندهشة من خلال ملاحظة ووصف الظواهر الطبيعية والكائنات فى الأفلاك أو العلويات كما أسماها وفى الأرض “السفليات”، بمعنى أن ميزة النص أنه يقدم تأريخا للثقافة العلمية لعصره، من خلال النظر وملاحظة الظواهر والكائنات مع قراءة وتجميع القزوينى لما كتبه المعاصرون له أو السابقون عليه من تفسيرات صارت الآن جزء من تاريخ العلم.
وحيث ينبهنا القزوينى لكون سيرة الحياة محتشدة بالدهشات أو بالعجائب والغرائب كما يسميها، وأنها ربما هى بعض مما حولنا ونعرفه ونعيش معه كل يوم ونألف من مظاهر الحياة لكن لا يتسع الوقت للكثيرين للتأنى للنظر والتدبر والفهم فى مواضع غرائبها وعجائبها، وجميع ذلك بعض من سيرة الكون وصيرورة الموجودات فيه ثم تغيراتها وتحولاتها وفق ناموس كونى لا يملك الإنسان له أحيانا تحديدا أو دفعا أو تعليلا، وأنه بعض ما يجرى منذ الأزل تظلله قدرة ومشيئة الله فى خلقهه وإن فارقت متوقعا أو معهودا أو مألوفا لدى البشر، فتحدث التحولات وتتجلى الاكتشافات المدهشة فى مواجهة ما قد يراه البعض معهودا ثابتا من كثرة ألفته، فتلك حكمة الله ومشيئته وكما يقول القزوينى: “وحيث لا يستعظم شئ مع قدرة الخالق وجبلة المخلوق”.
ويذكر هنا القزوينى إنه إنما “يذكر أسبابا تأباها طباع الغبى الغافل، ولا ينكرها نفس الذكى العاقل، وإنها وإن كانت بعيدة عن العادات المعهودة والمشاهدات المألوفة”، ويؤكد لنا أنه ليس مخترعا لتلك الغرائب ولا مؤلفا لتلك العجائب التى يقدمها والتى تحدث فى ظواهر الكون أو حدثت لغيره وعرفها وقيدها، وإنما قام فى العمل عليها بمنهج وجمع مدقق: “على أنى أشهد الله تعالى أن شيئا منها ما افتريته بل كتبت الكل كما اقتريته”.
ويقدم ما هو عجيب فى جوهره معتادا فى مظهره للناس من كثرة المشاهدة وتعبيرا عن أن زوال العجب والحيرة واستئناس الدهشة يكون بالاعتياد والمعايشة وتكرار التواتر فتنشأ ألفة القرب غير طارحة الأسئلة: “مثاله أن الإنسان إذا رأى خلية النحل وكيف أحدث هذه المسدسات المتساوية الأضلاع الذى عجز عن مثلها المهندس الحاذق مع الفرجات والمسطرة”، ثم يدلل على ما ذهب إليه بدعوة الإنسان الذى يسأل بأن ينظر إلى الأرض وجعلها قرارا ثم إلى جعل ظهرها محلا للأحياء وبطنها مقرا للأموات، ثم عندما تتنزل مشيئة الله تعالى: “فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ”. ومن ثم وكما يقول عن الناتج من ذلك والذى يراه البشر مألوفا كل موسم رغم كونه من عجائب قدرة الله بأن الأرض حينها “أظهرت أجناس المعدن ونبتت أنواع النبات وأخرجت أصناف الحيوان”.
يمضى بنا القزوينى مستعرضا أفق وظواهر “العلويات” أى الأفلاك وأشكالها وأوضاعها وحركتها وحيث: “الافلاك كرات محيط بعضها ببعض حتى حصلت من جملتها كرة واحدة يقال لها العالم”. ووفق مساحة المعرفة فى القرن السابع الهجرى يقدم لنا توصيفا علميا لحالة رؤية وتوثيق العلم لما أسماه بالأفلاك فإذا غمض عنه شئ أو لم يكتمل معرفته به فإن العلم لله دوما :”ومن الأفلاك ما لم يعرف له إلا كوكب واحد كأفلاك السيارات ومنها ما لم يعلم عدد كواكبها إلا الله تعالى”.ويقدم القزوينى توصيفا للأفلاك يستدل منه على قراءة موسعة لما كتبه العلماء وتعبيرا عن حالة الترجمة السائدة للعلوم فى تلك العصر مستشهدا بما يوحى بذلك من نصه فيقول: “بحسب ما عُرف من آراء المتقدمين وأصحاب الأرصاد سيما بطليموس”، وتعبيرا عن كون العلم منجزا كونيا يشارك فيه الجميع لا تنغلق عليه ثقافة أو موضع جغرافى بل يكمل بعضه بعضا.
ويقوم بوصف مفصل للقمر ومظاهره وتكوينه: “والقمر من شأنه أن يقبل النور من الشمس ولونه الدانى إلى السواد وهو أصغر الكواكب وأسرعها سيرا، وزعموا أن جرم القمر جزء من تسعة وثلاثين جزء وربع جزء من جرم الأرض”. ويؤكد كعالم وباحث هنا السياق أو الشروط العلمية لما ذكره بأن يضيف: “هذا ما وصل إليه آراء الحكماء بحسب المقدمات الحسابية”.
ويستكمل القزوينى وصف القمر ويظهر هنا أن تلك الشروح هى مساحة العلم وقتئذ أو ما أمكن أن يصير ثابتا علميا متفقا عليه فى عصره، فيكون عجبا ومدهشا دالا على قدرة الله على صنع الظواهر وتغيير النواميس وبناء خصائص ودقائق الحياة : “وزعموا أن تأثيرات القمر بواسطة الرطوبة كما أن تأثيرات الشمس بواسطة الحرارة ويدل عليها اعتبار أهل التجارب”.
ويقدم قراءة لعلاقة حياة الكائنات بضوء القمر أو بتبدل حالاته حيث يرى أنه تكون أبدان الحيوانات أقوى فى وقت زيادة القمر وضوئه، وتكون عروق الإنسان فى بدنه ظاهره، وبعد الامتلاء تكون الأبدان أضعف والبرد عليها أغلب والعروق أقل امتلاء وذلك – كما يذكر – أمر ظاهر عند علماء الطب.
سيكون تعريف ذلك من عجائب وغرائب -من وجهة نظر النص – أن ترتبط حالة البشر جسديا بالأفلاك رغم عدم الارتباط العضوى الظاهر بينهما وفق المعرفة العلمية وأفقها فى ذلك الحين، وهو كما يرى القزوينى تعبيرا عن وحدة الكون وترابط مكوناته، وينقل القزوينى عن أطباء عصره نماذج لارتباط حالة القمر وتأثيره على البشر: “وزعموا أن الذين يمرضون فى أول الشهر أبدانهم وقواهم على دفع المرض أقوى، والذين يمرضون فى آخر الشهر بالضد .. ومنها أن الحيوانات تكثر ألبانها من ابتداء زيادة نور القمر الى الامتلاء وتزداد أدمغتها واذا نقص نور القمر نقصت غزارة الألبان”.
وقد رأينا أن نبحث فى ذلك وتتبع تلك الملاحظة ومدى اتساق ذلك او مخاصمته للمعرفة العلمية المعاصرة، فأمدتنا بعض نتائج القراءة بأن بعضا من ذلك لم يثبت صحته أو يستدل عليه بينما فيما يخص البعض الآخر فهناك ترابطات وثقتها دراسات، وأن هناك بعض أثر من كون الظاهرة تنطبق على الأبقار الحلوب، حيث توجد معدلات ولادات تلقائية كبيرة فى مراحل تطور القمر من الامتلاء للاكتمال بدرا.
وفيما يخص الحالة المزاجية للبشر وأطوار القمر تضمن تقرير على موقع BBC عنوانه “The mood-altering power of the Moon” نشر على منصة المستقبل بالموقع بتاريخ 31 يوليو 2019، والتقرير ينقل أثر الدهشة – كما حيرة القزوينى القديمة- عندما يختفى التفسير فينقل التقرير عن مصادر من الباحثين بأن العلاقة بين الدورات القمرية ودورات التبدل في الحالة النفسية ما بين الاكتئاب والهوس والجنون تبدو قابلة للتصديق وأنها معقدة وحيث لايوجد معرفة عن الآلية التي تحكم ذلك، ويمضى التقرير بأنه قد ربطت أيضا بعض الدراسات بين النشاط الشمسي وزيادة معدلات الانتحار والإصابة بالأزمات القلبية والسكتات الدماغية ونوبات الصرع وحالات انفصام الشخصية”. أليس ذلك يشبه حيرة القزوينى من ملاحظات ظواهر الكون تحدث من حوله لايملك لها تفسيرا.
ويمضى القزوينى معرفا بما يقدره أو يعلمه وفق عصره وحدود معرفته من تأثير للقمر على البشر: “ومنها أن الإنسان إذا أكثر القعود أو النوم فى ضوء القمر تولد فى بدنه الكسل والاسترخاء، ويهيج عليه الزكام والصداع”، أما فيما يخص الحيوانات فإنه وفقا له “إذا كانت لحوم الحيوانات بادية لضوء القمر تغيرت رائحتها وطعمها.. كما أن السمك يكثر فى البحار فى نصف الشهر القمرى الأول وتخرج حشرات الأرض أكثر من أحجرتها كما أن لسعها وعضها يكون أقوى تأثيرا فى نصف الشهر الأول”، ويمضى مؤكدا ما ينقله من معارف أو يوثقه بربطه بأدلة من معايش معاصريه وملاحظاتهم : “وهذا أمر ظاهر عند أرباب الفلاحة حتى عند عامتهم فضلا عن علمائهم وهو أن الفواكه والرياحين والزرع والبقول والأعشاب زيادتها تكون أكبر من وقت زيادة القمر الى الامتلاء”، ثم يضيف أن الفواكه إذا وقع عليها ضوء القمر أعطاها لونا عجيبا من حمرة أو صفرة .. “بل أن المعادن التى تتكون يكون جوهرها وصفاؤها أشد”.