عبد الناصر وبيان ٣٠ مارس ..!
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
علمنا درس التاريخ أن الإخلاص والأمانة والصدق مع الله والوطن لا يضمن وجودها وحده للحاكم النجاح التام في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبلوغ الأهداف الوطنية، وكسب ثقة الشعب، وتأسيس دولة جديدة وقوية، وحماية مشروع الدولة الوطنية.
بل لابد من ضمان وجود حاضنة اجتماعية وثقافية للسلطة ومشروعها، وحد أدنى من التوافق مع الجماعة الوطنية حول رؤيتها وخياراتها، ورجال دولة مؤهلين للقيام بأدوارهم بمهارة ونزاهة وشجاعة ومصداقية.
وعلى سبيل المثال، فقد كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر زعيما وطنيا كبيرا، وإنسانا وسياسيا في قمة النزاهة الشخصية والإخلاص لمصر وشعبها، لكنه، كما قال فيه الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم: “عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت”، ولم يعصمه إخلاصه وتجرده وحسه الوطني وحُسن نواياه من قيام نظامه بأخطاء كبيرة، اعترف هو شخصيا بها بعد نكسة يونيو ١٩٦٧، وعند صدور بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨.
وكم هو مفيد اليوم معرفة المُلابسات والظروف التي أحاطت بظهور هذا البيان أو برنامج الأزمة الشهير الذي وضع خطة للعمل الوطني في مرحلة ما بعد نكسة ١٩٦٧، والذي جاء بمثابة خريطة للإصلاح السياسي الداخلي، وخطة عمل لإجراء تغيير عميق في رؤية وأسلوب الحكم من أجل صنع مستقبل مزدهر لمصر والمصريين، بعد الاستفادة من أخطاء الماضي.
اعترف الرئيس جمال عبد الناصر في بيان ٣٠ مارس بشجاعة منقطعة النظير بالأخطاء التي وقعت فيها ثورة يوليو ١٩٥٢ بعد ١٦ عاما من حكمها، وحاول من خلال البيان الاستجابة لطموحات المصريين عامة، والأجيال الجديدة من الشباب خاصة، مع تقديم الوعد بإجراء إصلاح سياسي كبير في محاولة منه لإزالة التناقض بين السلطة والجماهير، وإعادة بناء الثقة التي اهتزت بينهما.
في هذا المعنى يقول الراحل الأستاذ صلاح عيسي:
“أدرك عبد الناصر بذكاء سياسي أنه لا جدوى من تجاهل حقيقة أن هناك عوامل موضوعية وراء سخط الشعب، وأن عليه أن يسعى للالتقاء مع الساخطين في منتصف الطريق، فقدم رؤية للمستقبل، يمكن أن تكون أساسًا للتوافق، وهو ما أتاح له أن يضمن- إلى حد كبير- هدوء الجبهة الداخلية واصطفافها خلفه، خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه”.
كما قدم عبد الناصر في البيان تصورا للتغيير المنشود لإحداث فارق في الرؤية والفكر وفي منهج وأسلوب إدارة الدولة، حتى لا يقتصر التغيير على الأسماء والشخصيات، فقال:
” التغيير المنشود أكبر من أن يكون مسألة تغيير أشخاص، وإنما التغيير الذى نريده يجب أن يكون أكثر بعدًا وأكثر عمقًا من مجرد استبدال شخص بشخص.
إن التغيير المطلوب لا بد له أن يكون تغييرًا في الظروف وفي المناخ، وإلا فإن أي أشخاص جدد في نفس الظروف وفي نفس المناخ سوف يسيرون في نفس الطريق الذي سبق إليه غيرهم.
إن التغيير المطلوب يجب أن يكون فكرًا أوضح، وحشدًا أقوى، وتخطيطًا أدق؛ وبذلك يكون للتصميم معنى، وتكون للإرادة الشعبية مقدرة اجتياح كل العوائق والسدود، نافذة واصلة إلى هدفها”.
وهذا يعني أن بيان ٣٠ مارس قد قدم طوق نجاة لمشروع الدولة الوطنية في مصر التي تأسست على شرعية ثورة يوليو ١٩٥٢، وسعى لإصلاح علاقتها بالمصريين، وأعاد بناء جدار الثقة المتصدع بينهما، وضمان عدم تكرار الأخطاء التي وقعت فيها بعد ١٦ عامًا ، وبما يضمن صنع مستقبل مغاير للدولة الوطنية المصرية، يُحقق طموحات وآمال الشعب فيها.
لكن بيان ٣٠ مارس رغم مصداقيته الشديدة، ودوافعه الوطنية الخالصة، ظل بسبب ظروف وأعباء حرب الاستنزاف، ووفاة الرئيس عبد الناصر المفاجئة حبراً على ورق، وضاع على دولة يوليو ١٩٥٢ فرصة حقيقية للتغيير الحقيقي، والإصلاح الصادق الذي يُحدث فارقًا في تاريخها ومسارها.