شادية.. رحلة “صوت مصر”
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يأتي كتاب د. هاني الديب “رحلة العمر: شادية بين السينما والأغنية (1959-1987)” (دار المحرر، 2024)، ليسد فراغًا في المكتبة الغنائية والموسيقية العربية. فالكتاب ليس مجرد سيرة فنية للفنانة المحبوبة، وإنما هو حصيلة بحثٍ شامل ورصد دؤوب لكل قصاصة تمكن الباحث من الوصول إليها لمتابعة رحلتها الفنية يومًا بيوم.
والكتاب في مجمله هو محاولة جادة ورصينة لتوثيق سنوات من مشوار شادية مع الفن.
عبر صفحات الكتاب (508 صفحات) تجد نفسك في حضرة تاريخ كبير لنجمة ملأت الدنيا طربًا وتمثيلًا وإبداعًا وحُبًّا وجمالًا.. شادية التي وضعت لنفسها مكانة كبيرة بين كل محبيها ومحبي الفن، فتألقت في السينما والغناء والإذاعة والمسرح أيضًا، لتترك بصمات تاريخية خاصة جدًّا، فلا نندهش من تكريس مؤلف الكتاب 20 عامًا من عمره للبحث في المجلات والصحف وقصاصات الجرائد ليضع أمامنا كتابه الأول والذي يشمل أول سيرة فنية موثقة شاملة عن شادية.
ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن “رحلة العمر: شادية بين السينما والأغنية (1959-1987)” ليس مجرد كتاب واحد يضم عشرة فصول، بل إنه في جوهره عشرة كتب تحمل في طياتها أول محاولة لتوثيق الأعمال الكاملة لشادية وكواليسها والكثير من الحكايات على لسانها وعلى صفحات الصحف والمجلات، فهنا سندخل إلى عالم السينما ثم الأغنية والإذاعة والمسرح والمشروعات التي توقفت ولم تكتمل لاعتزالها، مع مجموعة ضخمة من الصور التي لن تجدها إلا هنا إضافة إلى مجموعة من الملاحق بالأفلام والأغاني والحفلات والبرامج الإذاعية موثقة تاريخيًّا في فترة ازدهارها الفني والأكثر نضجًا وامتلاءً بالمحطات الفنية (1959-1987).
في تقديمه لكتابه الشامل، يقول المؤلف:
“اخترتُ تحديدًا 28 عامًا منذ 1959 وحتى اعتزالها، اعتبرتها “العمر الحقيقي” للفنانة شادية لأنها كانت المرحلة الأكثر ثراءً في المشوار، والأكثر تنوعًا وتنقلًا بين ألوان الفن المختلفة من الإذاعة للسينما للغناء والمسرح أخيرًا” (ص 16).
يمكن القول إن الكتاب ليس سيرة شخصية عن حياة شادية وأسرارها وقصص الحُب والزواج التي تكون عادةً مادةً ثرية للكتابة عن نجوم الفن، بل إننا أمام “سيرة فنية” لفنانة وصفها كثيرون بأنها “صوت مصر”، ومحاولة للتوثيق والتأريخ لوضع نقاط الضوء على سنوات “منسيّة” من تاريخ شادية.
الجيد في الأمر أننا نقرأ في الكتاب معلومات وتفاصيل قد يطالعها القارئ لأول مرة، عن أهم العلامات الفنية التي قدّمتها شادية خلال تلك الفترة، فضلًا عن إتاحة صور نادرة أمام الجمهور. ويُحسَب للباحث أنه سعى للابتعاد عن المعلومات التي تعتمد على أقوال مرسلة وغير موثقة بقصاصة صحفية أو حديث مصور أو مسجل. اعتمد د.هاني الديب أيضًا بشكل أساسي على توثيق جوانب من حوارات شادية نفسها لبعض البرامج الإذاعية أو التليفزيونية، وهي تسترسل بتلقائيتها المحببة في سرد ذكريات أو مواقف أو آراء تنير لنا جوانب مهمة في سيرتها الفنية.
ينطلق المؤلف في كتابه من حقيقة أن شادية في رأي الجمهور والنقاد هي أهم فنانة شاملة في القرن العشرين؛ حيث جمعت بين الغناء والتمثيل في السينما والمسرح” (ص 12).
يشير المؤلف إلى أن شادية قررت في أوائل ستينيات القرن العشرين أن تسير في طريقين لا يلتقيان إلا نادرًا فتقدم أفلامًا بلا غناء وتغني دون تمثيل، وقد كانت تستطيع أن تحقق التوازن لولا تلك الأقلام الكثيرة التي بدأت تشجعها أن تمثل وتظهر مواهبها التمثيلية، فاقتنعت لفترة طويلة فظلمت الفن. وعلى سبيل المثال، اجتمع مجموعة من الأدباء في مقالٍ واحد على أن شادية بلغت قمة التمثيل وتنتظرها قمم أعلى وأكثر. ظهر هذا في مقال نشرته “الكواكب” في 12 نوفمبر 1963 تحت عنوان “أدوار جديدة لـ8 فنانات”، وفيه مجموعة من الأدباء والمفكرين يختارون أدوارًا جديدة لـ8 فنانات مصريات من نجمات القمة في الستينيات، فنجد الشاعر والأديب كامل الشناوي يراها بلغت الذروة في السينما وعليها أن تسير في اتجاهين متوازيين، السينما والغناء، فهي في التمثيل ذروة وفي الغناء عصفور رقيق يمارس ألعابه بمرح وجاذبية بين الذروة والسفح. أما الكاتب أحمد حمروش فاختار لها أن تجسِّد دور راقصة قديمة اسمها امتثال فوزي. سعد الدين وهبة يراها فتاة وطنية تشترك في عمل سري لها وجه يتحدث بلغة تختلف عما يتحدث به لسانها وفي عينيها عمق البئر التي لا قرار لها. أما كمال الملاخ فيرى أنها لا بدَّ أن تترك أدوار بنت البلد ذات الحسن والدلال والإغراء وتمثل شخصية جاة، طبيبة مثلًا، وأخيرًا د.مصطفى محمود تمنى أن يراها في دور رابعة العدوية.
المزيد من الأقلام شجعت شادية في اتخاذ طريق التمثيل بلا غناء، ففي مقال عن نجوم 1963 نُشِر في “الكواكب” بتاريخ 31 ديسمبر 1963، قال أنيس منصور: “شادية نجمة 1963 بفيلميها “اللص والكلاب” و”زقاق المدق”، فقد استطاعت أن تنتزع نفسها من الإطار الضيق الذي حددته لها الأغنية الخفيفة وانتقلت إلى المجال الواسع في التمثيل لدرجة أننا لم نشعر ونحن نشاهدها تمثل أنها في حاجة إلى أن تغني!”.
وفي تقييم وتوثيق نقدي للموسم السينمائي عام 1964 كتب عبد النور خليل عن اتجاه شادية للتمثيل: “يبدو أن شادية تفكر جديًا في الانقطاع عن الغناء؛ لقد بدأت هذه التجربة بدور “نور” في “اللص والكلاب” إلا أنها عادت لتغني في “زقاق المدق”، لكنها لن تغني في أحدث أفلامها “الطريق” وإن كانت مضطرة إلى الغناء مع عبد الحليم حافظ في “معبودة الجماهير” فهو مشروع قديم وأغانيه جاهزة ودورها فيه مطربة، على أن القاعدة المعقولة بالنسبة لشادية هي أنها تنمّي قدراتها التمثيلية وهي قادرة بلا شك” (مجلة “الكواكب”، القاهرة، 17 نوفمبر 1964).
رغم انتصار الممثلة دالها في عقد الستينيات، فإن شادية ظلت تؤكد -في أكثر من مناسبة- تؤكد أنها تحب التمثيل بقدر حُبِّها للغناء، لكنهما يتأرجحان من وقتٍ لآخر. وأعلنت شادية الابتعاد عن الغناء، كما كتب جليل البنداري في حوار معها (مجلة “آخر ساعة”، القاهرة، 20 ديسمبر 1961) تحت عنوان “شادية تعتزل الغناء”، وقالت إنها قررت أن تعتل الغناء في الأفلام لأنه يعطل المواقف الدرامية ويؤثر على مسيرتها كممثلة، وقد اقتنعت أنها ممثلة والنقاد اعترفوا بها كممثلة وهي تريد أن تنطلق كممثلة.
ثم عادت بعد نحو عام تشتاق من جديد للغناء، وتعلن على استحياء أنها لن تترك الغناء كما جاء في حوارها مع سيد فرغلي (مجلة “الكواكب”، القاهرة، 5 فبراير 1963) تحت عنوان مباشر وصريح “لن أعتزل الغناء!”.
الغناء كما ذكرت في الحوار هو حياتها، والجمهور عرفها كمطربة، وهي لا تمانع من تقديم الأغاني، لكنها في تلك الفترة اعتزلت الحفلات لأنها لا تجد وقتًا كافيًا للبروفات، ولذلك قررت الامتناع عن الحفلات حفاظًا على اسمها الفني واتجهت للسينما بكل كيانها لأنها وجدت روايات تستفز قدراتها كممثلة وتستحق أن تتفرغ لها بشكل كبير.
الكتاب زاخر بالتفاصيل الشائقة والمعلومات الثرية، حتى أنه يكاد يكون كتابًا جامعًا مانعًا عن سيرة شادية ومسيرتها الفنية، وهو أمرٌ يستحق أن نشيد معه بالطبيب د.هاني الديب، الذي أمتع القراء بهذه المعلومات الثرية عن فن شادية ورحلتها الفنية المدهشة.