منوعات

سيرة من تاريخ الشغف ..

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ربما كان شغف البشر بمشاركة وتوثيق أوجه حياتهم دافعا نحو اختراع كل شيء وربما أى شيء مما يدخل فى باب الفائدة أو التسلية وما بينهما من محطات، وربما هو أيضا سر التنقيب والإرتحال تقصيا لأوجه دهشة الكون، كما مثلت رغبة الحكى التى أرخت حياة الناس تعبيرا أيضا عن تلمس ألفة الطمأنينة وبهجة التحلق حول من يحبون فى شأن أو اهتمام أو حكي يجمعهم.
وعبرت الخربشات والرسوم الأولى على جدران الكهوف عن كل ذلك لتؤسس فيما بعد ما صرنا نعرفه عصريا بالميديا وتوابعها ووسائطها، هى سبل تواصل وتفاعل بين البشر أو فلنقل أنها الجدران والحوائط وربما الكهوف العصرية لعرض وتوثيق حياتهم لمن يأتى بعدهم، بعض أثر على ما كانوا يفعلون ويعيشون.
وعند قراءة الصحف الأولى فى مصر نعرف شيئا عن حالة النظر للكون تلك والتوقع والسعى، وبينما نقلب أعداد الجزء الأول من السنة التاسعة فى العام 1900 لمجلة ” الهلال” باعتبارها مجلة علمية تاريخية أدبية وفق تعبير منشئها جرجى زيدان، تدهشنا بعض ما حملته من محتويات وهى تقص وتنقل أخبارا عن العلم والطب بل وبعض آداب الحديث العصرى وفق توصيف المجلة، وحيث كانت حينها ومنذ ما يزيد عن قرن وعقدين تتابع الجديد والمدهش من اختراعات ومبتكرات وإضافات بل وجديد فى مجال السلوك البشرى من بروتوكولاته دائمة التحديث، وهو مجال للنظر عن كيف شكلت الصحافة ما يعرفه الناس مما لم يتم إحاطتهم به خبرا عيشا أو معرفة ول سبيل غير ذلك كناقل أوحد للمعارف والجديد والأخبار، وحيث فى تلك الصفحات يرى البشر جديد عصرهم ويتابعون متغيراته، ولتكون تأريخا موثقا لسيرة الدهشات وشغف الحياة ومستجداتها لدى البشر.
فسعيا عما يجعل الحياة أطول والصحة أفضل، ذلك الحلم الأزلى المتجدد، أو وفق تعبير المجلة الشائق “إكسير الحياة” تنقل فى باب الأخبار العلمية ما نصه: “فاضت جرائد أمريكا فى عقار جديد أسموه أكسير الحياة، ويزعم مخترعه أنه يعيد الشباب بعد زواله، وقالت جريدة النيويورك هرالد أنه مركب من الصوديوم والفصفات والكليسرين، وأن مستر إبراهام هيوت أحد أصحاب الملايين فى نيويورك وحاكمها الأسبق جربه بنفسه وهو فى الثمانين من عمره، وكان الناس يعجبون بنشاطه وخفة حركته وصفاء ذهنه، عملا بإشارة طبيب فرنسى، وقد بدأ المستر هيوت بهذه المعالجة منذ ثلاث سنوات وكان يشكو من ضعف عام يمنعه من النهوض ولكنه لم يعد يشعر بضعف من ذلك الحين”.
وتمضى المجلة فى باب أخبار العلم – لاحظ هنا كيف تتغير الأشياء وكله تسويقا يتحدث باسم العلم الذى هو فى ذاته حالة دائمة التغير- والذى يبدو كحكايات مفارقة تأتى بالطبع من العالم الجديد أو من بلد العجائب أمريكا: “من العوائد القديمة الشائعة أن الطعام أحسن ما يكون تناوله مطبوخا ناضجا، ولكن بعض أهل شيكاغو بأمريكا يزعمون أن طبخ الأطعمة قبل تناولها مضر لأنه يذهب بفائدتها الحقيقية، فتألفت هناك جمعية إسمها جمعية الطعام النيء، غرضها تنويه الناس على إبطال الطبخ وتناول الأطعمة نيئة، وحجتهم فى ذلك أن الحويصلات الحية “البروتوبلاسما” لا تكون حية إلا إذا أُخذت من مواد حية، وأنه لم يسمع أحد عن شجرة نبتت من بذرة مطبوخة، قالوا فإذا غذينا أولادنا باللحوم النيئة نمت أجسادهم نموا سريعا حتى يكونوا كالجبابرة”.
وفى باب الأخبار العلمية تنقل عن “الدالى مايل” الإنكليزية عن مكاتبها فى بطرسبورج أن الأستاذ بوبوف الروسى الشهير اكتشف للمحادثة بلا سلك طريقا غير ماركونى وخاطب أغنياء إنكلترا بشأنه فطلبوا إليه القدوم الى لندن للمداولة فى ذلك، فإما أن يبتاعوا له الاختراع كله أو يؤلفوا له شركة كبرى، وقد أجاب الأستاذ طلبهم وسافر، وسنرى مايكون من أمره وفق تعبير المجلة الدال على تلبية اهتمامها بمتابعة الخبر والاستجابة لشغف القراء.
كما تمنح المجلة مساحة لكتابات فى مجال الإيتيكيت، تخصصها وفق ما نشرته للآنسة الفاضلة منتهى مطر وتحت عنوان ” آداب المحادثة” وجاء فيه: “وإياك أن تسأل أحدا من مجالسيك عن شغله أو مهنته أو أرباحه وخسائره إلا إذا حادثك هو فى ذلك، وإذا كان جليسك سيدة فإياك أن تسألها عن ثمن فسطانها أو برنيطتها إلا إذا كانت من أصحابك الخلصاء”.
وتجتهد المجلة وصاحبها فى تسويق أعدادها ودعم الإشتراك بها ويقدم هنا ما يمكن تسميته بواكير أفكار التسويق للصحف ووسائل الإعلام عربيا، عبر إعلان يحمل عنوان “ألطف هدية” يقول نصه: “ألطف هدية إلى صديق بعيد عنك إشتراك سنة من الهلال فإن صديقك يلتذ بمطالعته ويذكرك به مرتين كل شهر أو هو يذكرك كلما اطلع عليه ونرجو أن يذكرك بالخير”.
وتخترع أيضا تسويقا مستحدثا لدعم الإشتراكات: “لقد اتفقنا مع محل شقيقنا يوسف أفندى زيدان الخياط بمصر أن يتنازل لكل من مشتركى الهلال عن خمسة فى المئة من ثمن البدلة يصطنعها فى محله فى مصر، ومعنى ذلك أن المشترك وبعد أن يساوم المحل المذكور على ثمن البدلة كالعادة يبرز وصل الإشتراك فيترك له خمسة فى المئة من الثمن المتفق عليه، وبالجملة أن المشترك لا يتمتع بهذه الامتيازات الا بعد تسديد ماعليه للإدارة من قيمة الإشتراك”، وهنا تقدم فكرة المساومة أو المفاصلة – والتى هى كالعادة وفق تعبير المجلة – باعتبارها تقليدا تاريخيا شائعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى