منوعات

د. سلطان القاسمي يُوثق ما خفي من تاريخ النبهانيين في عمان

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قالها ذات يوم تشي جيفارا: «إن الحياة كلمة وموقف، الجبناء لا يكتبون التاريخ. إن التاريخ يكتبه مَنْ عشق الوطن، وقاد ثورة الحق، وأحب الفقراء.» ربما لو تأملنا هذه الكلمات نُدرك لماذا يهتم صاحب السمو الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة بالتاريخ؟ لماذا لا يتخلى عن هذا الشغف بتدوينه، توثيقه، وتصحيحه؟ لماذا تنوعت مؤلفاته بين المسرح والرواية وسرد القصص القادمة من أعماق تاريخنا التليد؟ وكأنه على وفاق مع فكرة مارتن لوثر كينج «إننا لا نصنع التاريخ، بل التاريخ هو الذي يصنعنا.» لذلك، فمن الضروري معرفة التاريخ والوعي به حتى نتحرر أولاً، ثم نتحكم في حاضرنا ومستقبلنا.

التاريخ يُعيد نفسه. فمثلاً العلاقات بين كثير من دول العالم قديما، وحديثاً، كانت مترابطة أحياناً إلي حد التعقيد، فما كان يحدث في مصر كان يؤثر، ليس فقط، على منطقة الخليج، لكن أيضاً على كثير من بلدان العالم. هذا ما يتأكد من قراءة موسوعة «سلطان التواريخ» أي «حجة التواريخ»، أحدث مؤلفات سمو الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، والصادرة عن منشورات القاسمي، فمثلاً في الجزء الرابع من الموسوعة يحكي أن: «الحملة الفرنسية على مصر عام ١٧٩٨ م أثارت رعب البريطانيين الشديد من احتمال تقدم فرنسي نحو الهند من خلال الأراضي العثمانية، فقاموا بخطة شاملة حاسمة لتثبيت نفوذهم وتجارتهم في الخليج.. أرسلوا رسولا إلي عمان لمقابلة الإمام والتحقق من نواياه تجاه الفرنسيين الذين وصلوا مصر، ومحاولة ثنيه عن مساعدتهم.. مثلما قاموا بتجديد وتثبيت معاهدة القولنامة مع عمان.. ثم، لكي يُؤمنوا قبضتهم على التجارة مع مسقط وفارس أسسوا وكالة بريطانية ومقر تجاري في مسقط.»

أيضاً، نذكر واقعة الأتراك عندما أخذوا يحشدون جيوشهم في مصر انتقاما لمقتل قائدهم وجنوده في عدن، في بداية ١٥٤٨م، وذلك أثناء الصراع التركي البرتغالي على طرق التجارة، فتم عقد اتفاقية بين سلطان عدن وملك البرتغال، وبطبيعة الحال امتد الصراع إلى مسقط.

كذلك، في «تاريخ أئمة البوسعيد في عمان ١٧٤٩ – ١٨٥٦ م » يتناول المؤلف فترات كانت فيها الأوضاع هادئة يسودها السلام، ثم تلك الفترات التي وقعت فيها اضطرابات عظيمة في مسقط، والصراعات بين الأئمة هناك حيث جرت الحروب وضُيعت الأمور، تارة بسبب تفشي الدعوة السلفية حيث ساهم في ذلك مَنْ يُمارسون التجارة إذ قاموا بنقلها معهم إلى ديارهم.. مما صعَّد الأوضاع الخطيرة في عمان، مروراً بالتحول المفاجئ في سياسة آل سعود تجاه منطقة الخليج وعمان ومحاولتهم إرساء السلام، إضافة للصراعات بين الدول الكبرى وانعكاس ذلك على المنطقة، خصوصاً الصراعات بين فرنسا وانجلترا فقد كانت السفن الفرنسية أثناء تجوالها في مناطق الخليج تبحث عن السفن الإنجليزية لمهاجمتها والاستيلاء عليها، وصولاً لعقد الإمام في عمان اتفاقيات مع القوى الأجنبية ومنها بريطانيا، وفرنسا، والبرتغال. ومن ثم استغلال أحد شيوخ القواسم للوضع المتفاقم وللصراعات بين الأئمة في عمان واستولى على خورفكَّان.

إضافة إلى ما سبق، يهتم د. سلطان أثناء ذلك بتسليط الضوء على فترات الاستقرار والازدهار التي عاشتها عمان في أكثر من مرحلة، ويُوثق العديد من المواقف المُشرَّفة للمقاومة العُمانية وتلك الانتصارات التي حققها شيوخهم على البرتغاليين رغم مقتل الكثير منهم، ورغم تفوق عتاد العدو مما قاد لتسوية في بعض المرات. وقد استعان المؤلف بوثائق ضمنها بالملاحق منها: تقرير روبرتس بادتبرغ – بالجزء الثالث – عن الحياة في عمان وأسلوب الحكم والإمام والأمانة في توزيع أموال بيت المال، وموقف الشعب إذا فسد الحاكم، وإزاء نهب الأموال بغير الحق. كذلك، من الوثائق تقرير إلياس بوداين عام ١٦٥١م: الذي وصف مسقط أثناء رحلة إبحاره إليها بأنها «كانت المكان الوحيد للتجارة على ساحل العرب، محاطة بمرتفعات عالية وهناك تحصينات للرجال، والمدينة محاطة بالمدافع البرونزية الممتازة على الشاطئ من الجانبين.» ثم يختتم د. سلطان القاسمي موسوعته بتقسيم بريطانيا للإمبراطورية العمانية إلى إقليمين: العماني والأفريقي، وسرعان ما استطاعت أن تنفرد بالإقليم الأفريقي وتنتزعه لتحقق مشروعها الانتقامي.

على صعيد آخر، فإن زاوية السرد، دائما وأبداً، عند دكتور سلطان القاسمي تُحدد المغزى وتوضحه، فهو يجمع بين ضفتي الموسوعة العديد من أحجام اللقطات بصورة درامية تسهم في بناء صورة شاملة غنية تٌعنى بالتفاصيل مثلما يختار بدقة زاوية واسعة مرتفعة – كأنها بعين الطائر – فيمنحنا لقطة مكبرة للأحداث والمواقع والشخصيات، فإذا كانت الموسوعة تحكي عن تاريخ عمان فإننا نرى ونعايش هذا التاريخ – بكل ما خفي من تفاصيله – في إطار علاقته بالعالم سواء بالدول المجاورة، أو بالدول الكبرى.

فمثلاً، بالجزء الثاني من الموسوعة «تاريخ الملوك النبهانيين في عمان ١١٥٤ – ١٦٢٢م» نجد أن الجُملة المفتاحية للقراءة تتجلى في اقتباس المؤلف وتوثيقه لمقولة ابن بطوطة أثناء زيارته مدن الساحل العماني ١٣٤١م قائلاً: «ومن مدن عمان مدينة إزكي، لم أدخلها، وهى على ما ذٌكر لي مدينة عظيمة ومنها القريات وكلباء وخورفكان وصحار، وكلها ذات أنهار وحدائق وأشجار ونخل، وأكثر هذه البلاد هرمز.»

تٌوضح الجملة السابقة، بما لا يدع مجالا للشك، لماذا اختار سمو الشيخ د. سلطان القاسمي أن يبدأ بمدنية هرمز قبل مدن القريات وكلباء صحار وخورفكان، ولماذا أيضاً كان توقفه طويلاً أمام الأحداث والوقائع في هرمز، فتلك المدينة احتلت موانئ الساحل العماني لفترة من الزمن، والذي كان يحكمه ملوك هرمز عن طريق الوٌلاة، خصوصاً في عهد الحكم البرتغالي، بسبب تأمين طرق التجارة، وكثيراً ما كان هناك سلام واتفاق بين ملوك عمان النبهانيين وهرمز، لأنها تعد ميناءهم وعاصمتهم السابقة، ويمكن من خلالها عبور بضائعهم. ويستمر تحليل وشرح وتوثيق دكتور القاسمي وصولا لصراع السلاطين النبهانيين وزوال الملك إذ يستعرض سموه تاريخ حكمهم لعمان ومساندتهم لملك البرتغال وانقسامهم.

يصل المؤلف لنتيجة مفادها أن المصالح التجارية والاقتصادية والرغبة في بسط النفوذ كانت وراء كل تلك المعارك التي كان تأثيرها، ليس فقط، على الدولتين المتصارعتين أو المنطقة، وإنما على التجارة الدولية، فقد توقف مرور البضائع عبر البصرة ومنها إلى حلب، ومن ثم إلى أوروبا، مثلما توقفت التجارة عبر البحر الأحمر والسويس والإسكندرية ومنهما إلى أوروبا.

ما سبق، يجعلنا نعيد تأمل تاريخنا المشترك كدول عربية الذي يتضمن مقاومة محتل كان ولايزال يتنافس على ثرواتنا وخيرات بلادنا، لذلك يغزو أراضينا تارة بحجج دينية، وتارة بحجج أمنية ودعاوى عن تثبيت الديمقراطية وحماية دول حليفة .. عدو يغزو أراضينا، وعندما يقاومه الشرفاء الأبطال يبدأ في بث سمومه، وغرس الفتنة وإشعال فتيل الانقسام، وعقد الاتفاقيات المغرية مع البعض من تحت الموائد وتقليب العشائر ضد بعضها البعض، فما حدث بالأمس البعيد لازال يحدث اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى