بعض من طقوس الفصول ..
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
كل أشياء الحياة من حولنا تأخذ مع الوقت بعضا من سماتنا أو نتمثل فيها مع الوقت شيئا من ملامحنا، وهكذا تحمل الفصول بعضا من روائحنا، عطر الأحبة والكثير من الذكريات، كما أن تحولات الفصول عبر الزمان غيرت ما بقي راسخا في مخيلة الطفولة التي تقبع في ركن مكين في العقل، وهكذا أدركنا الصيف بعد أن أوشك أن يحل صيفا حارا جدا وأيضا محتشدا بالرطوبة وبعد أن ثبتت صفحات كتاب الجغرافيا في عقولنا ما هو معلوم باليقين الطفولي أنه حار “وبس” صيفا بل وجاف أيضا حتما وأحببنا ذلك وثبت راسخا في ذاكرة أيامنا.
محبة الفصول وتحولا الارتباط بها ربما ترتبط بدورة العمر، حيث تبدو مرحلة الطفولة والمراهقة -وربما حتى انتهاء الدراسة الجامعية وما بعدها قليلا- واقعة في غرام فصل الصيف، وفيه يطول ويحلو السهر، وتتنوع جولات آخر المساء وما تزدان به المحلات والمطاعم والمقاهي من تجمع الأصدقاء، وحيث لا تغلق أبوابها حتى وقت متأخر، ويزين كل ذلك أنه فصل مرتبط بالإجازة الدراسية حيث لا ثمة اضطرار للاستيقاط المبكر، كما لا توجد ثمة أعباء ترتبط بأعمال تحتاج انتظاما ومتابعة تجعل السهر وجولات المساء المتأخر مرتبطة بأيام الإجازة الأسبوعية والعطلات، وعلى عكس ذلك يحل فصل الشتاء متزامنا مع الدراسة وما يرتبط بذلك من التزامات.
وكما تعاقب النهار والليل تتباين دورة تفضيلات الفصول بالتقدم في العمر، وحيث يحمل الصيف أيضا معظم ذكرياتنا البهيجة، تؤرخها تفاصيلا لمة الأصدقاء والاجتماع على دهشة الحكايات وقصص متنوعة جميلة تترى حكاياتها، تلك التي تشتعل فجأة كعاصفة وتختفي كأثر الفراشة، حين تبحث عن حيز الذكريات الموسعة المحتشدة بالفرح ستتوهج في ذاكرتك باعتبارها داخل ألبوم الصيف أو أن معظمها كذلك.
ربما ساعد على ذلك تراث غنائي عذب تزامن مع ليالى الصيف “لمين بتضحك يا صيف لياليك وأيامك” يطلقها فريد الأطرش وهو يحكي تجارب الفصول الأربعة يؤرخ بها لمشاعر الإنسان مانحا الربيع حيز الهيمنة ورائحة الزهور، ولعل رائعة عبد الوهاب تظل هي بحق تأريخ قدوم الصيف غناء وشغفا، حيث يتم التوسع جماليا في وصف النسايم التي تسرى بها مساءات الصيف لتكون شبها بكلمات المغرمين ” قالى كام كلمه يشبهوا النسمه فى ليالى الصيف”.
كان يكفى في صيف عرفناه أن نفترش أسطح المنازل مساء – لم تكن أجهزة التكييف أعزك الله مما هو معلوم في الصيف بالضرورة – وكم كانت رحيبة باجتماع الجيران والأصدقاء والواردين من الأقارب حيث لم يكن قدوم أى ضيف يستدعى تجهيزا مبالغا فيه أو استعدادا فائقا، ارتباطا ببساطة وسعة البيوت لمن يدخلها في كل وأى وقت، وتأكيدا حقيقيا للمثل الشعبي الجميل بأن كل المتاح ممكن وحيث “بصلة المحب خروف” وكل القادمين محبون.
تتسع ألبومات الصيف لدوارق الكركديه التي تلمع عبر جدران أوانيها الزجاجية قطع الثلج الكبيرة هنيئا للشاربين، لم تكن المشروبات الغازية – من غزو وغازى وغازات- قد حلت واستقرت بديلا لما عهدناه من تمر وخروب وسوبيا وكركديه مشروبات هنيئة طيبة، وحيث لم تكن صرعة البرجر والسوسيس قد صارت بديلا متاحا يسيرا وسهلا لساندوتشات الفول والطعمية والكشرى التي كانت تشبهنا ونألفها.
ثم الصيف مكتل وصف عبر ما تأتي به رحلة الصيف السنوية ومصايفه من ذكريات هى زاد كل عام، هكذا يحمل كتاب الصيف فصلا كاملا بعنوان يوميات المصيف، الإنتظار والتجهيز له ثم تفاصيل رحلته التى تحمل بهجة في كل خطوة، وتلك الزهور التي تحملها شرفات الجيران، والصور الفوتوغرافية الورقية الكبيرة التي يلتقطها المصورون الذاهبون على طول الشاطئ يجسدون تجمع الأحبة على شاطئ البحر وقت الغروب، وشرفة المصيف التي تعلو قليلا عن سطح الأرض بحيث ترى البحر والشارع المؤدي له بينما صوت الكاسيت ينطلق في اتجاه البحر يدير أغنيات “شريط” على الحجار الجديد وهو يغني: “لآخر مدى”.
يمضي بنا التاريخ هرولة بينما تظل كلمات كتاب جغرافيا الطفولة عالقة لا تتغير تحكي عن زمان كان فيه الصيف وبيقين راسخ حار فقط وجاف صيفا بينما هو وفق ذات الكتاب دفئ وممطر شتاء فهل كبرنا وبعدنا كثيرا عن تلك الأيام وقد تغير شيء كبير في طقوس الفصول من حولنا ؟!.