منوعات

باريس وتوفيق الحكيم بعد نصف قرن

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يقدم لنا توفيق الحكيم فى كتابه الممتع “رحلة بين عصرين” انطباعاته عن مشاهداته وانطباعاته عن الحياة الباريسية وتحولاتها بين عصرين بينهما نصف قرن، كتابة رشيقة تستحضر الذكريات والوجوه وتعيد تقييم الانطباعات الأولى والمبكرة لذلك الفتى الذى زار باريس دارسا فى أوائل عشرينات القرن العشرين ثم عاد إليها أديبا معروفا وقد مرت خمسون عاما كاملة، يشاهد باريس التى عرفها قديما وعاش فيها بعيون جديدة، وهو فى هذا الكتاب يقدم لنا نماذج من البشر كما أدركهم وأنماطا من الحياة عرفها يعيد النظر إليهم تأملا كأنهم ألبوم صور فى خزانة درج تركها صاحبها نصف قرن ثم عاد إليها من جديد يتابع فيها مندهشا مرآة حياته بعد أن تحلى بخبرات ومرشحات الحياة وقد مضت به.

ذهب توفيق الحكيم فى رحلته تلك ضمن برنامج أعد له يسترجع فيه الكتاب والمثقفون الذين عاشوا فى باريس في فترة ما بين الحربين العالميتين ذكريات مرورهم الأول على الأماكن والشوارع والمنتديات والمكتبات والمقاهى التى عرفوها ذات يوم بعيد.

وقد قدم توفيق الحكيم مشاهدات لحياته فى باريس من قبل فى كتابين شهيرين أحدهما نص روائى هو “عصفور من الشرق” والصادر عام 1938، وفى كتاب آخر له خصوصيته فى تاريخ الأدب العربى يتشكل حوارا يعبر فيه توفيق الحكيم عن حياته فى باريس جمعها من خلال رسائل متبادلة بينه وبين صديقه الفرنسي آندريه، رسائل وجدها الحكيم عند صديقه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تنقل مشاهد من حياة ذلك الشاب المصرى فى باريس وتقدم مقارنات بين الحياة الفنية والثقافية ودور الفن والثقافة فى المجتمعين الفرنسي والمصرى خلال فترة إقامته هناك ومنح الحكيم الكتاب عنوانا يعبر عن مرحلته العمرية واندهاشاته الأولى “زهرة العمر” وصدر عام 1943 وكأنه حينها يبعث رسالة تعاطف وحب الى باريس التى عرفها مزدهرة وقد صارت وقت صدور الكتاب منهكة جريحة مأزومة بعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية وغزو هتلر لها.

تأتي انطباعات مشاهدات ما بعد نصف قرن مغايرة، نضجت رؤيته وشذبت خبراته رومانسية مشاهداته الأولى فمنحته إطلالات جديدة عبر عنها فى هذا الكتاب، ويبقى أنه احتفظ بأسلوبه الرائق وملاحظاته اللماحة والساخرة معا.

يقول توفيق الحكيم أن فكرة هذه الرحلة قديمة عُرض عليه القيام بها منذ سنوات فكان يتكاسل ويؤجل مخترعا شتى الحجج، والسبب كما يقول هو تقدم العمر: “صور الماضي كادت تزول من رأسي، أما الحاضر فإني أواجهه بنفس شاخت وفقدت الكثير من مرح الشباب وانطلاقته وحماسه ودهشته”. لكنه على كل حال ذهب ورأى وحكى”.

أما رحلته الأولى فقد كان طالبا وفى زمن أوائل عشرينات القرن العشرين وعلى متن الباخرة. ويقول بعد نصف قرن مخالفا بعض مما كتبه قبل ذلك فى كتابيه السابقين المتأثرين بفترة شبابه وحياته هناك، فيعود مقارنا بين القاهرة وباريس فى توقيت سفره الأول ذلك، ليمنح للقاهرة بعضا من فضل ومكانة:” لم يبهرني أول الأمر منظر هذه المدينة “باريس” التى يسحرنا مجرد اسمها .. انما هى بيوت عادية رمادية اللون مائلة السطوح”. لكنه لا يتجاهل أيضا فى استعادات الذاكرة ما بقى أثرا واضحا من معالم جمالية، فيصف المطر فى رحلته الجديدة وهو يغسل الأشجار ويمنح الشوارع نظافتها ولمعانها ويصل الى استخلاص مبكر: “ان الطبيعة هى التى تتولى تزيين باريس.. والطبيعة هنا تحب الشجر كما تحب الأم طفلها فهى تواليه بالتنظيف كل صباح”. ويصف متذكرا فى رحلته الأولى نصيحة مدير الفندق الذى أقام فيه فى باريس بأن يحجز غرفته بالشهر توفيرا فيقول:”وحسب لى الأجرة الشهرية بأربعمائة فرنك أى ما يقرب وقتذاك من أربعة جنيهات.. وسرت فى الحى اللاتينى والمطاعم تملأ الشوارع وعلى أبوابها بطاقات الأسعار، هذا مطعم يقدم وجبة الغذاء كاملة من لحم وخضر وخبز وفاكهة ومياه معدنية بخمسة فرنكات أى خمسة قروش مصرية”.

يلتقط الحكيم ملمحا آخر مختلفا فى تجربة السفر فهو يعود إلى باريس فى رحلته الثانية بعد نصف قرن لكنه هذه المرة على متن الطائرة: “لم أشعر بالوقت يمر للهبوط، فى مثل هذه السرعة الخاطفة كيف يتأمل إذن اليوم المتأملون؟”. ويذهب توفيق الحكيم إلى المزارات التى عرفها فى رحلته الأولى فيجدها تحولت وتغيرت ومن أثر دهشته يقول إنه لم يجد جدوى فى تذكر شئ، متسائلا عن كيف ستكون صورة المستقبل فى هذه البلاد، ثم ينتهى الى القول: “لا .. لم تعد فائدة من تذكر الماضي هنا فلنعش الحاضر، بعد أن يئست من العثور على شيء يبعث لى طيفا من أطيافا ذلك الأمس البعيد”.

تغيرت باريس ووجدها الحكيم فى هذه المرة مزدحمة بالسائحين لا تتيح له إمكانية حجز غرفة فى فندق واحد طوال مدة إقامته، ويسأل نفسه: ماذا تقدم باريس للناس؟ فيجيب: “هى تقدم لهم حصيلة الحضارة الانسانية مضغوطة فى مدينة واحدة، ورغم الغلاء الفاحش الذي فرضته على القادمين إليها”.

ويذهب إلى موضع سكنه القديم الأول وإلى ذات الشارع فلا يتعرف على شيء فقد أصاب التغيير ما عرفه ويضيف: أما فندقي الذي كنت أقطنه والموصوف فى “زهرة العمر” فلا وجود له، بل لا وجود لأى منزل مما كنت أعرف فى سالف الزمان”.

يعيد توفيق الحكيم النظر إلى باريس من جديد فى ظل شروط التغيير والتطور فلا يعود يسأل عن موضع بيت أو مطعم أو شارع عرفه ليدرك أن العمران منظومة تجمع فى تجانس بين قديم وجديد وفقا للقيمة التاريخية للبيوت والشوارع والأحياء: “وجعلت أستجلى وجه باريس اليوم إنها الماضى والحاضر معا، الماضى الجميل الذى يجب أن يبقى والحاضر المتغير ليلائم التقدم”.

ولعل قسما مهما من الكتاب عندما ينظر توفيق الحكيم لباريس المعاصرة فى تاريخ زيارته فيتطرق من خلال ذلك لسؤال الهوية المصرية وشروطها وعناصرها: “ما هى مصر؟ تلك التى تشغلنا فى بعدنا عنها أكثر مما تشغلنا فى قربنا منها؟ .. إنها شيء عظيم جدا ممتد فى الزمن متعمق فى الأثر ان ما نسميه مصر جسما وروحا وشخصية يشبه الإنسان العظيم ..إن الشخصية ليست صفة جامدة ثابتة إلا فى الجسم الميت أما فى الجسم الحى أو القابل للحياة فهى صفة حية متحركة تتغير وتتطور تبعا لما تتلقاه من غذاء ومن تأثير”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى