الموت وحكمة وبلاغة النساء المصريات
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
الموت هو الحقيقة الكبرى في حياة الإنسان، وقد أدركها واحتفى بها أجدادنا المصريون القدماء، وأبدعوا من التأمل فيها فكرة الحياة الأخرى التي ربطوا مصير الإنسان فيها بمبدأ الثواب والعقاب، وحتمية أن يجني الإنسان بعد الموت حصاد ما زرعه في حياته الأرضية.
بل ذهب المصريون القدماء في عصور الاضطراب والاضمحلال إلى تمني الموت للهروب من حياة قاسية غير عادلة، واعتباره بابًا للحرية وطوق نجاة وخروجًا للنهار وعودة إلى البيت القديم؛ مثلما فعل صاحب البردية الشهيرة التي حملت عنوان “حديث بين إنسان سئم الحياة وروحه”، عندما قال:
إن الموت اليوم أمامي مثل نهاية المطر
مثل عودة رجل إلى البيت بعد رحلة فيما وراء البحار
إن الموت اليوم أمامي مثل سماء صحو
مثل شوق المرء لرؤية بيته بعد أعوام من الأسر.
ولم يمنع إيمانُ المصريين القدماء والمحدثين بحتمية الموت وفكرة العالم الآخر الذي يتحقق فيه العدل المفقود في الدنيا من الشعور بالحزن على فراق موتاهم، ومعاناة وجع البعاد ولوعة الفقد، ولهذا أبدعوا في رثاء الموتى وتعديد مناقبهم وآثارهم، وإثارة دواعي الحزن على غيابهم من خلال فن العديد أو المراثي الذي كان فنًا خاصًا بالنساء عرفته الحياة الاجتماعية المصرية عبر كل عصور مصر التاريخية خاصة في صعيد مصر.
وفي كتابه “المراثي الشعبية .. العديد في صعيد مصر” الصادر عام 1982، أورد الدكتور عبدالحليم حفني حوالى 40 نوعًا من فن العديد، رصده ببحثه الميداني عند نساء الصعيد، مثل: عديد المرضى، العديد على الزوج والأخ والأطفال، عديد الشباب، عديد الغُسل والجنازة، عديد العُروس التي لم تتزوج، عديد الرجل الشجاع، عديد الرجل الذي مات في الغربة، عديد المرأة التي مات أولادها، عديد ذوى السلطة، وعديد الغريق والمحروق والسجين… إلخ. تميزت جميعها بالقدرة على إثارة دواعي الحزن على الميت من خلال قوة التعبير والتصوير العاطفي والإيجاز، كما عبرت عن أعظم صور حكمة وبلاغة النساء.
وقد توقفت كثيرًا في هذا الكتاب القيم الذي حمل بين دفتيه ميراث حزن المصريين الأصيل عند “مراثي الغريب”، وهو الرجل الذي مرض أو مات بعيدًا عن ديار أهله، والذي وصل خبر مرضه إلى أمه أو زوجته أو أخته، فأصبحت تخشى عليه الموت في الغربة وتدعوه إلى العودة سريعًا إلى بلده، فتقول:
نادى المنادي وطوح النبوت
روح بلادك يا غريب لا تموت
نادى المنادي وطوح الحربة
روح بلادك يا غريب أبقى.
وعندما يفيض كيل حزن المرأة من تصورها الحبيب الغريب وحيدًا في مرضه، تُخاطب بنات جنسها من نساء بحري، لعل واحدة منهن تعتني بالغريب الوحيد في مرضه، فتقول:
بنت البحيرة ما عندكيش نار
قيدي الفتيلة للغريب عيان
بنت البحيرة معندكيش ولوع
قيدي الفتيلة للغريب موجوع.
وعندما يقع المكتوب ويرحل الحبيب وحيدًا غريبًا عن أهله وناسه، تُعاتب المرأة المُوجوعة فقيدها الغريب على أنه لم يمت بين أهله وشيعته، فتقول:
ليه يا غريب ما مت في واديك؟
شيعتك كبيرة يعززوك أهليك
ليه يا غريب ما مت في بلدك؟
شيعتك كبيرة يعززوك أهلك.
وعندما يصل لها خبر موته غريبًا وحيدًا دون أن يبكي عليه أحد، أو يصرخ وجعُا لفقده، لا تجد المرأة الصعيدية مفرًا من أن تُناشد بنات جنسها من نساء بحري لتُجاملها في فقيدها بالصراخ والبكاء عليه، فتقول لها:
بنت البحيرة يا لابسه الطرحة
أمانة عليكي تعطي الغريب صرخة
بنت البحيرة يا طاله من الحيطة
أمانة عليكي تعطي الغريب عيطه.
وعندما تسافر تلك المرأة الموجوعة لزيارة قبر فقيدها الغريب تجد قبره مجهولًا ومهانًا بين القبور، حتى إن البقر يرعى عليه، فيُوجعها ذلك وتتخيل حورًا بينها وبين القبر، هي تسأل وهو يجيب على لسانها، فتقول:
قبر مين اللي البقر داسه؟
قبر الغريب اللي فاتوه ناسه
قبر مين اللي البقر هدّه؟
قبر الغريب اللي فاتوه أهله.
ولأن تلك المرأة سوف تعود حتمًا إلى بلدها وتترك قبر الغريب وحيدًا من جديد، نراها تخاطب إحدى النساء من بنات بحري القادمة لزيارة قبر أهلها، وتدعوها لزيارة قبر الحبيب الغريب والترحم عليه كلما مرت عليه، فتقول:
يا طالعة والكحك في كمك
فرقي على قبر الغريب جنبك.
وفصل المقال، إن تلك المراثي الشعبية الجديرة بالقراءة والتأمل تمثل جزءًا مهما من تراثنا الثقافي غير المادي الجدير بالدراسة والحفظ، وهي تُجسد بامتياز حكمة وبلاغة النساء في بلادنا وعبقرية الوجدان الشعبي المصري، كما تُجسد أيضًا ميراث الحزن الجنوبي المُتجذر في أرض الصعيد وأرواح وثقافة أهله، وهو الحزن الذي يجعلنا نقول هناك: “حزن الصعيد فاجر”، أي لا يستحيي ولا يرحل، بل هو مُستبد مُقيم.