منوعات

المقاهي.. مدارس المعرفة

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في بحثٍ رصين وجهد تاريخي واجتماعي وثقافي له قيمته، وضع جيرار جورج لومير كتاب «القهوة والأدب: المقاهي الأدبية من القاهرة إلى باريس» (دار ألكا، بروكسل، الطبعة الثانية، 2021) الذي ترجمته إلى اللغة العربية د.مي محمود.

في هذا الكتاب الذي يقع في 224 صفحة من القطع المتوسط، نطالع تفاصيل مهمة عن المقاهي الأدبية وأصل كلمة «قهوة» وعلاقتها بالأذكار الصوفية والموسيقى، فضلًا عن رحلة ممتعة في عالم المقاهي في القاهرة والإسكندرية وبلاد المغرب، وباريس وضفاف البسفور ولوكسمبورغ. في حضرة هذا الكتاب، تحتسي القهوة بصحبة نجيب محفوظ، ومارسيل بروست، وجان بول سارتر، وغابرييل غارسيا ماركيز وخورخي بورخيس، وغيرهم ممن كتبوا عن المقاهي ومدى تأثرهم بها. وفي رحاب الكتاب الشامل، تدرك كيف كانت المقاهي بمنزلة الرحم الذي خرجت منه الحركات الأدبية والفنية والسياسية، من السريالية إلى الدادائية، ومن الأحزاب إلى أول برلمان في العالم.

إن القهوة، التي أطلق عليها العثمانيون وصف «مدارس المعرفة» هي بالفعل جامعات للمعرفة، بما ضمته من البرلمانات المرتجلة، والمكاتب الصحفية، والدوائر الشعرية، والنوادي السياسية، ومختبرات اليوتوبيا والثورات.

ومنذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين أخذ الاستشراق عمومًا، والاستشراق الفرنسي خاصة يُعنى بالرسائل المؤلفة حول القهوة من الناحية الاجتماعية والثقافية، فكانت هناك مخطوطات أخرى مثل «تحفة أخوان الزمن في حكم قهوة اليمن»، للسيد مرتضى الزبيدي شارح القاموس. و«مقدمة في فضل البن» للعلامة علي الأجهوري، «السر المكنون في مدح البون» (أي البن) لابن علوان، و«رسالة في حق القهوة» لأبي سعيد الخادمين، وقد طبعت في الإستانة في القرن العشرين، و«رسالة في الشاي والقهوة والدخان» للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي المتوفى في العام 1332، وهنالك العشرات من الأراجيز في مدح القهوة وذمها.

وقد أفرد الرحالة الأوروبيون في مذكراتهم مكانًا بارزًا للقهوة وللمقهى في البلاد الإسلامية، وابتداءً من القرن السابع عشر أخذ الجمهور الأوروبي ينتبه إلى معلم مهم من المعامل السوسيوثقافية التي ميزت بشكل كامل طابع المجتمعات الإسلامية، وهي القهوة شرابًا والقهوة مجلسًا، ومن ثم انشغلت الدراسات الاستشراقية بالموقف الفقهي الإسلامي من القهوة تحريمًا وتحليلًا، حتى عبرت القهوة شرابًا ومجلسًا من البلاد الإسلامية إلى البلاد الغربية.

ويعزو الدبلوماسي السويدي إينياس موراجا دوهسون، أثناء رحلته إلى الشرق الأوسط في القرن الثامن عشر، أول استعمال للقهوة العربية، إلى أحد الصوفيين في مكة؛ إذ استطاع أن يبقى على قيد الحياة في الصحراء بفضل القهوة وحدها، فانبهر أتباعه بالأمر، وروّجوا لفضائلها في جميع أرجاء مكة، وما يقوله هذا المؤلف، في واقع الأمر، هو تكرار لأبحاث عربية كثيرة كانت موجودة قبل مجيئه بزمنٍ طويل، وهي تُجمِع على هذه الشخصية الصوفية التي تكون قد وجدت ربما في تناول القهوة، عونًا لها على مواصلة رياضاتها الروحية (ص 12).

ويكتشف الجغرافي الألماني كارستن نيبور عند زيارته لليمن في 1762-1763، أن الشاذلي وهو رجلٌ ورع عاش قبله بأربعمائة عام، قد أدخل القهوة إلى مجموعة من المطلعين على السر.

الشاهد أن هناك العديد من الروايات الأسطورية في أصل القهوة. ترتبط واحدة من هذه الروايات بالصوفي اليمني نور الدين أبو الحسن علي بن عمر الشاذلي، عند سفره إلى إثيوبيا.

تقول الأسطورة: إنه لاحظ أن الطيور تتمتع بحيوية غير عادية عند تناول القهوة. وتعزو روايات أخرى في اكتشاف القهوة إلى تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي عمر. وفقًا للوقائع القديمة المحفوظة في مخطوطة عبد القادر عمر الذي كان معروفًا بقدرته على علاج المرضى من خلال الصلاة، نُفي يومًا ما من موكا إلى كهف صحراوي بالقرب من أوساب، كان عمر جائعًا فمضغ الحب من الشجيرات القريبة، لكنه وجدها مرة. حاول تحميص حبات البن لتحسين النكهة، لكنها أصبحت صلبة ثم حاول غليها لتليين البن، مما نتج عنه سائلٌ بني اللون ذو رائحة عطرة. عندما شرب عمر السائل شعر بنشاط استمر لعدة أيام. كما وصلت قصص هذه «المخدرات المعجزة» موكا، وطلب من عمر العودة وأصبح ذا مكانة دينية.

ويسرد لنا نجم الدين الغازي رواية أخرى، يحكي لنا فيها:

«إنه أثناء تجواله مرةً قرب إحدى غابات القهوة، أخذ يقتات، كما هي عادة التقاة، على هذه الثمرة التي وجد صعوبة في تناولها على الرغم من نضجها، ولاحظ أنها تنشّط العقل، وتُديم اليقظة وتُحفّز الروح (هذا التحفز اللازم لإنجاز الواجبات الدينية) فشرع بتناولها بوصفها غذاءً وشرابًا، ودعا أتباعه إلى الاقتداء به حتى انتشرت هذه الممارسة في كل اليمن» (ص 13).

ويرى باحثون أن أول من جاء بالقهوة إلى اليمن؛ موطنها الأول في الجزيرة العربية، هو رجل دين من أهل عدن اسمه جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني الذي عاش في منتصف القرن التاسع الهجري (منتصف القرن الخامس عشر الميلادي) من الحبشة حيث كان يسافر لها، وقدّمها لأهل بيته وأصدقائه وضيوفه لتعديل المزاج وللتعافي من الوهن والإجهاد، ثم بدأ المزارعون في اليمن في زراعة البن بعد انتشار شربها في الطبقة العليا وبعد ذلك قلّدهم العامة وانتشر شربها بين اليمنيين وأصبحت عادة اجتماعية يومية، بعد ذلك انتقلت إلى مكة، فعمّت الحجاز، ذلك بعد أن انتشرت في مصر بواسطة طلاب يمنيين أخذوها معهم في رواقهم في جامع الأزهر للاستعانة بها على السهر من أجل المذاكرة والدرس، ثم انتقلت إلى نجد (المنطقة الوسطى بالجزيرة العربية)، وفي القرن الخامس عشر وصلت القهوة إلى تركيا، ومن هناك أخذت طريقها إلى مدينة البندقية في عام 1645. ثم نقلت القهوة إلى إنجلترا في عام 1650م عن طريق تركي يدعى باسكا روسي الذي فتح أول محل قهوة في شارع لومبارد في مدينة لندن عام 1652م، فأصبحت القهوة العربية قهوة تركية، وقهوة إيطالية، وقهوة بريطانية بعد أن تدخلت أمزجة هذه الشعوب ورغباتهم في تجهيز القهوة.

وينقل لنا الجزيري حكاية مختلفة إلى حدٍ ما:

يقول فخر الدين الحاكي:

«من المؤكد أن أول من نشر استخدام القهوة هو الظباني ]المقصود هو الإمام الصوفي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني[، بيد أن أول ما وصلنا من العديد من الأشخاص، يؤكد أن أول من أدخل القهوة، وجعل من تناولها عادةً منتشرة وشعبية، هو تلميذ لشيخنا ناصر الدين الميلق، أحد شيوخ الطريقة الشاذلية، وقيل إن القهوة استخرجت من الكافتا، وما زال تناول القهوة يواصل انتشاره.

«وإن بدا أن القهوة قد دخلت المنطقة العربية عند منتصف القرن الخامس عشر، إلا أنه لا يوجد أثرٌ مكتوب يؤكد على استعمالها. ويبدو أن كل كتّاب الحوليات العربية قد واجهوا الصعوبة ذاتها عند تعرضهم لأصلها. وبعد أكثر من مئة وخمسين عامًا يطرح أبو الطيب الغازي فكرة أن سليمان الحكيم كان أول من استخدم القهوة. ومن وجهة نظره فإن ملك القصص الإنجيلية قد قام برحلة طويلة، فوصل في نهار يومٍ جميل إلى إحدى المدن التي أصاب سكانها وباءٌ خطير لا شفاء منه، فأشار الوحي جبريل إلى الملك سليمان أن يقوم بتحميص حبوب قهوة اليمن، ليعدّ منها جرعات دوائية شافية، ويُنهي المؤلف روايته بالتأكيد على أنه تم نسيان القهوة تمامًا منذ ذلك الحين. وحسب معرفتي فإن الأدب العربي بقي صامتًا في هذا المجال وحتى القرن الخامس عشر» (ص 13-14).

لقد صنع لومير من كتابه دليلًا ثقافيًا جذابًا للانتقال من الجزيرة العربية إلى بلاد فارس، ومن اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية إلى القاهرة، ومن الرباط إلى حلب ودمشق حيث يتجمع الناس لسماع الحكواتي في رمضان، ومن ثم انتقال المقهى إلى باريس، حيث انطلقت الصحافة من المقهى والتيارات الأدبية من المقهى، والثورات السياسية والاجتماعية هي الأخرى انطلقت من المقهى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى