المشاريع الفكرية وتحقيق السلام (٣)
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
ركز “إيمانويل الكانط ” على وضع معايير لتحقيق السلام الدائم في القارة الأوروبية في محاولة للاستفادة من تجرية الحروب والصراعات التي مرت بها القارة لعدة قرون والعمل على وضع إطار فكري نظري وبراجماتي يجنب القارة الدخول في صراعات سياسية وعسكرية جديدة.
وخلافاً لكانط، جاءت المشاريع الفكرية لمفكري النهضة في العالم العربي والإسلامي لتحاول الإجابة على سؤال واحد مفصلي وهام لتحقيق الاستقرار والسلم وهو ” لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ ” وقد تطلبت الإجابة على هذا السؤال بعداً فلسفيا وبعداً براجماتياً عملياً. وتميز البعد الفلسفي في أنه لم يسع إلى تغيير الاطار الفكري المرتكز على تعاليم ومبادئ وقيم الدين الإسلامي بل في إحيائه والبناء عليه. فلم تأت المشاريع الفكرية تحت مسمى تحقيق السلام أو الاستقرار، ولكن عُرفت باسم مشاريع الإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي باعتبارها متطلبات أولية لتحقيق السلم الدائم. وهو ما لا ينف وجود محاولات للاقتباس من الغرب أو السير على منواله في العديد من الجوانب.
ويعتبر مشروع ” رفاعة الطهطاوي ” من بين المشاريع التي تحمل الطابعين النظري والبراجماتي معاً. وقد كانت مقارباته تستند على الاستفادة من أسفاره وزياراته إلى فرنسا ووصفه للمؤسسات التي زارها ودورها في تحقيق الإصلاح والاستقرار. وهي مقاربة يتبلور فيها الخطاب الإصلاحي للأحوال السياسية آنذاك. وهو ما أوضحه المفكر ” ألبرت حوراني ” فيما بعد في سؤاله ” كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءاً من العالم الحديث بدون أن يتخلوا عن دينهم؟”
ومن أهم التحديات التي واجهت الطهطاوي في مشروعه الفكري الإصلاحي هي التعبير والاستفادة من الأفكار الليبرالية الغربية وفهمها في إطار المشروعية الدينية. بعبارة أخرى، محاولة التقريب بين الأخلاق الليبرالية التي تحكم المؤسسات الاجتماعية والسياسية عند الغرب وبين الفقه والأحكام الشرعية. كل ذلك من أجل محاولة عقلنة النظامين السياسي والإداري الموجودين في مصر وفي العالم الإسلامي. ومن بين مظاهر الليبرالية التي حاول الطهطاوي أن يفتش لها عن مقابل في الحضارة العربية الإسلامية هي الديمقراطية والسلطات الثلاث والتمثيل البرلماني كضوابط للحد من استبداد السلطة وتحقيق الاستقرار.
وقد استقر الطهطاوي في مشروعه الفكري من أجل الإصلاح والاستقرار على وجود مقابل للمصطلحات الغربية (في فرنسا تحديداً) في الحضارة والممارسة العربية الإسلامية. فقيمة الحرية والليبرالية يوازيها مفاهيم العدل والانصاف. والبرلمان يوازي أهل الحل والعقد في الثقافة الإسلامية والعربية. وقد حاول الطهطاوي الاستفادة من المصطلحات وتطبيقاتها في الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية من أجل مواجهة متطلبات السياسة الواقعية وتحديث مؤسسات الدولة.
في الجزء الرابع نستكمل مشروع رفاعه الطهطاوي الفكري من أجل الإصلاح ومن ثم تحقيق الاستقرار والسلم.