المثقفون وحتمية نقد الذات
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
من أشهر كتب النميمة الثقافية في مصر كتاب “نبلاء وأوباش” للراحل الأستاذ سليمان فياض، الذي خصصه للحديث عن المثقفين والكُتاب “النبلاء منهم والأوباش، الشرفاء منهم والسفلة، من آثروا العلو والارتفاع ومن آثروا الانخفاض والتسفل، من ترفعوا عن الصغائر ويعيشون ويموتون بين المساكين، ومن يعيشون مثل سفلة الشجر والنبات، مثل النمنم الأبيض على الُظفر، ورقط الجرب يتفشى في جسد البعير”.
ورغم أن الكاتب الراحل سليمان فياض لم يُحدد أسماء من تحدث عنهم، إلا أن القارئ المُطلع على الوسط الثقافي في مصر والعالم العربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قد استنتج بسهولة من هم النبلاء ومن هم الأوباش، كما استوعب تمامًا الرسالة التي أراد المؤلف إيصالها للقارئ عبر صيغة الإهداء الذي افتتح به كتابه عندما قال: “”إلى الأجيال الجديدة: تذكروا أن الإنسان تاريخ وموقف، فلا سرَّ يخفى، ولا شهادةَ تموت”.
وانطلاقا مما كتبه بجرأة وشجاعة فائقة الراحل سليمان فياض، وجدت نفسي أحاول تحديد أهم أمراض المثقفين كما عايشتها في الواقع أو قرأت عنها في الكتاب والروايات المختلفة، وأنا لا أعني هنا الأمراض الفسيولوجية التي تصيب الجسد وتنتشر في أوساط المثقفين والمشتغلين بالعلم مثل السكر وضغط الدم، لكن الأمراض الفكرية والسلوكية والأوهام والتصورات الزائفة التي تُسيطر على عقل بعض المثقفين، وتؤثر بشكل سلبي على صورتهم وحضورهم ودورهم في مجتمعهم، ومن أهمها وأكثرها شيوعًا، من وجهة نظري، ما يلي:
مأزق التمركز حول الذات!
وهو المأزق المعرفي للذهن الذي يجد من المستحيل عليه الخروج من دائرة إحساساته وأفكاره وتصوراته الخاصة ليعرف العالم والواقع مباشرة”، مما يجعل صاحبه سجينًا لمعارفه السطحية وخرافاته الشخصية وأسيرًا لجمهوره المُتخيل الذي يراه نجمًا خارقًا. وقد نقد الفيلسوف الروسي نيقولا برديائف هذا السلوك فقال: “إن انغلاق الذات وانحصارها المتمركز على نفسها، والعجز عن الخروج من دائرتها الضيقة هو الخطيئة الأولى للإنسان؛ الخطيئة التي تحُول دون التحقق الكامل لحياته الشخصية، والتي تمنعه من أن يكون فعال ذا تأثير”.
النرجسية المفرطة!
بوجود هذا المرض ينطوي المثقف على نفسه، ليستشعر متعته وقوته في تأمله لذاته واكتفائه بها، وعدم انفتاحه على الآخرين. وإذا خرج للناس وتواصل معهم نجده يتحدث عن ذاته ومواهبه وإمكاناته وأمجاده الحقيقة والمُتوهمة.
أوهام النخبوية!
يظهر هذا المرض عندما يخطئ المثقف في تقدير ذاته وأهميتها، فيتصور نفسه عقلية إبداعية وفكرية لا مثيل لها، ومع ذلك لم يأخذ حقه من الرعاية الرسمية والاهتمام من الجماهير، ولم يعطَ الفرصة لإبراز مواهبه؛ ولذلك فهو موهبة مُهدرة كان يمكن أن تقود السلطة والمجتمع إلى آفاق جديدة من العمل والتقدم لو أخذ فرصته في القيادة.
الرومانسية الثورية!
يُمكن أن نُطلق على هذا المرض أيضًا اسم “حالة الطفولة اليسارية”، ومن أعراضه الانفصال عن الواقع، والسعي لتحقيق تغيير ثوري يقلب الأوضاع رأسا على عقب، دون الانتباه لخصوصية اللحظة التاريخية، وطبيعة ومتغيرات العصر، ومقتضيات الواقع وموازين القوى فيه.
الازدواجية بين القول والفعل!
هو أكثر أمراض المثقفين شيوعًا، لأن أغلب المثقفين في بلادنا لديهم ازدواجية بغيضة بين ما يكتبونه وما يحيونه ويمارسونه في الواقع؛ فهم يقولون ما لا يفعلون، ويدعون الناس إلى ما لا يؤمنون به حقًا، ويُسرون غير ما يعلنون، ويظهرون غير ما يبطنون، ويريدون أن يجعلوا من الثقافة أداة لتغيير كل الناس إلا أنفسهم.
فقدان الحس النقدي!
هو مرض معرفي في غاية الخطورة، يناقض جوهر وجود ودور المثقف؛ لأن المثقف بالأساس ناقد باستمرار لذاته وللفكر والسلطة والمجتمع. ناقد يؤمن بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، ولهذا عندما تستلبه أفكاره وقناعاته الخاصة أو أفكار الأيدلوجية أو المؤسسة التي ينتمي إليها، يفقد حسه النقدي، ويتحول من مثقف ناقد إلى إنسان عقائدي رجعي متصلب الفكر.
في النهاية، تلك في ظني أبرز أمراض المثقفين شيوعًا، وهي التي تؤثر في مصداقيتهم، وتفقدهم احترام المجتمع والسلطة، وتقلل من فاعليتهم وتجعل وجودهم في مجتمعهم كعدمه، وهي تحتاج أن نتأمل فيها جيدًا كشكل من أشكال ممارسة النقد الذاتي، وحتى نتجنب أن يصدق في المثقفين ببلادنا وصف أحد أبطال رواية “الزمن المُوحش” للأديب السوري حيدر حيدر عندما قال: “إن المثقفين في البلدان المتخلفة يعيشون عالة على المجتمع: حفنة ثرثارة تتحدث في النظري، بعيدًا عن واقع وآلام الناس، القراءات الضحلة حولتهم إلى ممثلين كاريكاتوريين وأدعياء يرون العالم من أعلى”.