القاطرة التى لا تذهب بعيدا .. “العمق الرمادى” أن تكون مبدعا وملتزما معا
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
كتاب ملفت التقطته يد المصادفة والتصفح الأولى ثم كان ذخرا لقراءة تفيض بالتأملات والرؤى، ونعرض هنا قراءة وتعليقا وبعض هوامش على ما يثيره نص هذا الكتاب المترجم للعربية عام 2015، والذى يقدم سيرة ذاتية مبكرة كتبها الشاعر الروسى الشهير يفغيني يفتوشينكو والذى مثل تيارا شعريا خاصا له فرادته ورؤيته، والكتاب صدر عن دار رؤية للنشر عام 2015 بعنوان : “يفغينى يفتوشينكو: العمق الرمادى .. سيرة ذاتية مبكرة” ويتضمن نص مذكرات الشاعر المبكرة التى ترجمها إدريس المليانى كما قدم تمهيدا تعريفيا مهما عن الشاعر والتجربة.
وعند مراجعة وقراءة سيرة أدبية لإنتاج الشاعر ندرك أن الكتاب صدر فى زمان أبعد كثيرا، إذ نشر الأصل الأول لتلك المذكرات المبكرة عام 1963 وآثارت جدلا وقتها داخل الاتحاد السوفيتى وخارجه، وحيث كان يطرق بقوة قضية الالتزام فى الشعر والأدب وكيف ينجو الشاعر من مباشرتها الخطابية.
يبقى دوما وعبر صفحات الكتاب العذب المتميز فى ترجمته والذى اقتبسنا عنوان أحد فصوله مختزلا كعنوان رئيسي لهذا المقال ونصه المكتمل هو: “القاطرة المبذرة بخارها فى الصفير لا تذهب بعيدا” والتى تطل كظل وارف يعبر عن معنى وقيمة وجوهر الشعر كما عبر عنه يفتوشينكو حين لايستغرق فى تأريخ الأحداث أو ويكون صدى للمناسبات أو يمثل دعاية فجة أو اختزالا لرؤية لا تجد حضورها فى ذات وتجربة الشاعر فيكون قصير الأثر والعمر.
ولقد تعرف العالم العربى على الشاعر يفتوشينكو والذى زار مصر وألقى قصائده فى احتفاء نخبوى موسع فى أواسط الستينات عندما استضافته دار الهلال كما تم أيضا استقباله بشغف كبير فى السودان فى الثمانينات، ثم تلى ذلك زيارة أخرى قام بها متأخرا الى المغرب كما يقول مترجم ومقدم الكتاب.
والكتاب الذى بين أيدينا ينفتح مبكرا على محاولة حضور فنى مبدع ومؤثر معا لشاعر عاش وأنتج ونشر فى الحقب السوفيتية المختلفة، ورغم أن النص يعبر عن تلك الفترة التى تقف نهايتها عند تاريخ النشر الأول للكتاب فى عام 1963، وتتضمن مراحل نمو تجربته وصقلها منذ بدأ أولى محاولاته فى عهد ستالين ناشئا مرورا بعصر خورتشوف الذى ازدهر فيه، وللشاعر تجربة شعرية وأدبية أكثر غزارة واكتمالا تمتد مرورا بنهاية عصر الاتحاد السوفيتى وفترة حكم جورباتشوف، ثم بعد ذهابه أستاذا زائرا لجامعة أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية فى أوائل التسعينات وحيث قبلها كان قد أصبح يفتوشينكو منذ عام 1987عضوًا فخريًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وانتهاء بوفاته هناك ووصيته بأن يعود ليدفن فى روسيا عام 2017 وحيث استقبلته الأوساط الرسمية والأدبية هناك بتأبين مقدر.
يعرفنا الشاعر فى ثنايا نصه أن بداية الشهرة والتألق كانت مع نهاية عهد ستالين وما عرف بفترة المكاشفة والانفتاح النسبى فى عهد خروتشوف ومنحه حرية السفر للشعراء والأدباء، ونعرف من قراءات أخرى موازية للنص المترجم أن هناك بعض كتابات تقول عن ارتباط ما وتشجيع من خروتشوف له تمثل فى الاهتمام بتقديم موسع لشعره الناقد للتجربة الستالينية، وحيث ذهب عام 1962 لكوبا مراسلا لصحيفة برافدا، ربما بعد نشره القصيدة الناقدة الشهيرة المسماة “ورثة ستالين”.
يقول يفتوشينكو فى الكتاب أنه ولد عام 1933 في بلدة زيما في سيبيريا وكان والده جيولوجيا وأمه عاملة ملتزمة حزبيا ثم مغنية وقد انفصل والداه مبكرا، يقول عنهما فى الكتاب أنه مدين لأبيه بتعليمه حب الكتب والقراءة من طفولته ولأمه بتربيته على حب الأرض والعمل.
وبعد أن خاض تجربة أسفاره الخارجية بتشجيع من خروتشوف الذى مدح جولاته فى خطاب رسمى، رأت بعض نوافذ الإعلام الغربى وقتئذ سفره خاصة زمن زيارته لأمريكا وارتباطا بقصائده الناقدة لستالين مما جعل مجلة التايم تضعه صورة الغلاف عام 1962، وهو ما وسع من نطاق شهرته وقدمه باعتباره صوتا شعريا رأوه غربا مختلفا وربما غاضبا، وكأنه شبيه بأولئك الأدباء الروس المنشقين.
ونعود هنا للكتاب والنص حيث يحكى هو تجربته تلك المبكرة وحيث يرفض باصرار تلك الصورة المنقولة التى قدمتها مجلة التايم عنه بينما كان يعيش وينتج ويؤلف فى الاتحاد السوفيتى السابق ويقول فى الكتاب: ” ولأنه فى الغرب بدلا من معرفة انتاجى تعطى عنى بعض المقالات صورة مخالفة كثيرا للواقع يريدون أن يجعلوا منى شخصية مستقلة منفصلة فيما يبدو كبقعة مضيئة عن العمق الرمادى للمجتمع السوفيتى لكننى لست بهذا الوجه”.
والمضيف فى هذا الكتاب أنه ومبكرا يعلق بشفافية جمة على قضايا “منقولة” طالما انشغل بها الوسط الثقافى العربى عن استقطابية الالتزام أم حرية الأديب، أو تلك التعبيرات التى طالما سادت عن الفن للفن أو الفن للحياة وكأنهما تعارضات لا تلتقى، وهو يرد علي تلك الاستقطابية من خلال انتاج شعرى أحب الوطن والمواطن وحفظ المجتمع بين حناياه دون لافتات دعائية ولهذا ربما بقى وغاب آخرون ممن آثروا تجربة شعرية ميكانيكية فى ارتباطها الملتزم ذلك.
ونقلا عن ترجمة سهام عريشى يقول يفوتشيكنو:
أنا العصيُّ الغريب،
أنا الخجولُ الوقِح،
أنا البغيضُ الطيِّب.
أحبُّ كلَّ هذا،
أحبُّ كيف يكتمل الشيء بشيءٍ آخر.
يؤكد الشاعر فى “العمق الرمادى” بين أيدينا أن سيرة الشاعر هى قصائده وماعدا ذلك فليس سوى تعليق ثم يمضى ليضيف جملة مهمة عن ذلك الاتساق بين انتاج الشاعر ومشاعره ، ويقدم لمحة عن تلك الميكانيية التاريخية “الملتزمة” التى حكمت انتاج بعض الشعراء فى تجربة الاتحاد السوفيتى المبكرة ساخرا: “أسس الشعراء الشيوعيون وقرروا أن يتكلموا فقط بضمير نحن معتقدين بسذاجة أنهم يخدمون مثلهم الأعلى لقد كانو يدقون بيأس طبول مواهبهم”.
ويضم الكتاب فكرة حياتية مجسدة عن معنى التزام الشاعر ممارسة عندما يحكى عن تجربة غزو ألمانيا للاتحاد السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية ومشاهد القتلى والجرحى: “ومنذئذ لم تعد الآلام بالنسبة لى مقتصرة على شخصيات الكتب فحسب”. ويذكر أن تلك الحرب أثرت عليه كإنسان وشاعر معا “جعلتنى أدرك ما معنى الوطن وأنه ليس اصطلاح جغرافى أو أدبى بل هو صورة الناس الأحياء”، ويمضى ليقول كيف عاش التجربة: ” لقد كرسنا جهودنا جميعا من أجل النصر كبارا وصغارا الجنود والعمال الفلاحون والمثقفون أنا ايضا حاولت أن أفعل مثلهم اشتغلت فى الحصاد وفى منشرة وجمعت أعشابا طبية لمعالجة المرضى”.
تتناثر عبر النص ذكريات عن حياته وكيف كانت أمه تحثه على إكمال طريق التعليم النظامى فى المدرسة التى كان يهملها، وأن أمه كانت تنفر من رغبته فى أن يكون شاعرا ربما تأثرا بشئ من علاقتها بوالده:” لن يعود عليك الشعر أبدا لا بحياة هادئة ولا بمال”. وكان داخله يقول “على أنى كنت أكره الحياة الهادئة بالقوة نفسها التى أمقت بها المال”.
لم يكمل الدراسة وبدلا من ذلك رحل فى عربة قطار الى كازخستان حيث أبيه، وبحث عن عمل كعامل فى البعثة الجيولوجية هناك يحفر الأرض بالمعول ويقتلع الأحجار، وهناك ” تعلمت أيضا أن الذكاء لا يقاس بكمية المعارف إن الميزة الأساسية لإنسان ذكى تكمن فى قدرته على فهم ومساعدة الآخرين وبدا لى حسب هذا المعيار أن كثيرا من الناس المثقفين جدا هم أدنى عقليا من بعض الفلاحين البسطاء”.
ويتحدث عن محاولاته الأولى والمتكررة للنشر ناشئا فى الصحف الأدبية والعامة التى قوبلت بالرفض وولكنها لم تمنعه من الاستمرار، وحتى نشر أولى قصائده فى صحيفة رياضية كانت متاحة بفعل صدفة وكيف كان رد فعله عند يقظته طوال الليك منتظرا صدور أول نسخة من صحيفة الرياضة السوفيتية وبها اسمه تحت قصيدته : “اشتريت خمسين نسخة من الكشك وانطلقت أعدو نحو البيت ملوحا بها وأنا أكاد أطير من نشوة النصر ولما أطلعت أمى لم تجد بم تثنى على غير هذه الكلمات: مسكين أنت يا ولدي لقد ضعت الآن نهائيا” ثم يردف قائلا “وربما كانت على حق”.