الغناء الشعبي في حضرة المدينة
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
في كتابها “فن الموسيقى والغناء: من العالم القديم إلى مصر الحديثة” (دار المحرر، 2024)، تسرد الباحثة وداد عدس بأسلوب علمي مُحكم ولغة دقيقة، قصة جذور وتطور العلاقة الخاصة التي طالما ربطت فن الموسيقى والغناء وممارساته المختلفة مع حياة الناس اليومية والوجودية والوجدانية منذ نشأة المجتمعات البشرية الأولى حتى يومنا هذا. كما تحكي عن تجليات تلك العلاقة في مسار تشكل عصر الحضارات البشرية القديمة والوسطى، والحضور الطاغي لهذا الفن جنبًا إلى جنب مع المجالات الحيوية الكبرى في المجتمعات الحضرية.
في كتابها المهم، الذي يعد أساس الأطروحة التي نالت عنها درجة الدكتوراه في تخصص علم الاجتماع، تقول الباحثة إن (فصيل) الموسيقى والغناء الفلكلوري (الشعبي التقليدي)، يعد الامتداد الحقيقي، المباشر، للغناء الطبيعي. وتوضح في كتابها الذي يقع في 308 صفحات تزخر بالتوثيق المدعوم بالقوائم والملحقات والمراجع، كيف أن هذا الفصيل الموسيقي، احتفظ وحافظ على أهم السمات الاجتماعية التي ميّزت الغناء الطبيعي، والتي ما زالت قائمة، حية وقوية، حتى يومنا هذا، وفي مقدمتها ذلك التداخل الكامل بين الممارسات الموسيقية الغنائية، والحياة. والمقصود هنا أن الموسيقى والغناء في المنظومة الشعبية، هو كما كان عليه، في حالته الطبيعية القديمة، قائمًا على أساس مركزي، أنه جزء أصيل من الممارسات الاجتماعية الأساسية للحياة.
ترى وداد عدس أن الترابط الطبيعي والعضوي، بين الممارسات الموسيقية الغنائية وممارسات الحياة، هو السبب الأساسي والمباشر، الذي مكّن غناء الشعوب من التحول، منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا، إلى منظومة ثقافية شعبية كاملة متكاملة، قائمة بذاتها، ولذاتها. تعيش، وتنتعش، وتُنعِش المجتمعات المحلية، والأحياء والقرى في جميع أصقاع الأرض. منظومة، ارتبطت بالناس، وتطورت، واستمرت تشكِّل البديل الأقرب للناس من منظومة الغناء والموسيقى الرسمية (المحترفة)، سواء كان الغناء الديني أو الدنيوي، وحتى الفني، التي شكّلتها، ووظفتها وطوّرتها، الحضارات الكبرى ودولها.
وبالرغم من أن منظومة الموسيقى والغناء الشعبي التقليدي، كانت -وما زالت- متوارية حضاريًا في خلفية المشهد “الثقافي والفني”، لصالح منظومة الموسيقى والغناء المحترف، أو بلغة العلوم الاجتماعية الحديثة، لصالح الغناء (الموسيقى) الفني Art Music، فإن هذه المنظومة الشعبية، وبفضل اتصالها المباشر بالجذر الطبيعي لنشأة الغناء الاجتماعية، كانت -وما زالت- المنبع الحقيقي، الذي نشأت وتغذت منه المنظومة المحترفة (الفنية)، قبل أن تكبر وتتحول إلى عالم كبير وخطير، وهي أيضًا الزاد الطبيعي، الذي تعود إليه الفنون المحترفة، في لحظات وسياقات تاريخية محددة، لتجدّد، أو تعيد إنتاج نفسها، كي تتأقلم مع التحولات الحضارية الدائمة.
ومن مصر وتحديدًا من مدينة القاهرة تَستمر حكاية الثالوث -الإنسان، وفن الموسيقى والغناء، والمجتمع- في العصر الحديث، من خلال تقديم سردية اجتماعية فنية تحفر في أرض الواقع في محاولة للكشف عن أسرار ”القوة الحيوية” لهذا الفن. سردية سوف يستخلصها الكتاب من دراسة وتحليل ممنهج لنموذج فني حقيقي هو المدرسة والمشروع الموسيقي والغنائي الذي قدَّمه سيد درويش ورفاقه في القرن العشرين، والامتدادات الحية لهذا الريبرتوار لدى الموسيقى الشبابية البديلة المصرية في القرن الواحد والعشرين.
تشير وداد عدس إلى التأثير بعيد المدى الذي أحدثه الغناء الصوفي في مجال الغناء المصري بسبب توغل هذا الغناء في عموم حياة المصريين اليومية والمعنوية. تموضع هذا الغناء على أعلى مراتب الغناء المحترف في مصر، وأصبح جزءًا أصيلًا من مشهد (صناعة) الغناء المصري الحديث.
بل إنه “يمكن القول بأن احتفال المصريين بالمولد النبوي وموالد الصالحين من آل البيت والأولياء، كان بمنزلة مدرسة للغناء والإنشاد تعلّم فيها، وتخرج فيها، عشرات ممن سبقت أسماؤهم ألقاب مثل (المنشد، المطرب، الواعظ والمادح)”.
لكن يبقى الأثر والحضور والأهمية التي حققها الغناء الشعبي التقليدي المصري في مدينة القاهرة جليًا، حيث تشير الكثير من الشهادات المتخصصة إلى أن هذا النوع من الغناء الذي حضر من الريف المصري منذ آلاف السنين، وانتقل بشكل عضوي إلى الحضر، وتشكّل وتحوّر حسب البيئة الحضرية الجديدة، وخرجت منه أشكال وقوالب تتناسب مع تلك البيئة، مع الاحتفاظ بالنيابة الأصلية الشعبية التي انحدر منها. الشاهد أن الغناء الفلكلوري موجود في القناة، ويسمى غناء “السمسمية” والموشح (قصائد وطقاطيق)؛ وفي الصعيد لديهم فن “النميم” و”الكف”. أما في الوجه البحري، فهناك الأغاني الدينية والحواديت، مثل قصة “سعدية وحسين” ذات الشكل الدرامي؛ وهناك في مصر غناء شعبي المدينة، والمقصود به أغاني الحِرفيين، وهو أصل الغناء الشعبي الحضري، الخاص بالحرف القديمة. بدأ، إذًا، غناء المدينة الشعبي بالغناء الحِرفي، واستوطن في المناطق السكنية التي أقام فيها هؤلاء الحِرفيون، بحكم أنهم سكنوا بجانب حرفهم، وهي المناطق التي أصبحت لاحقًا أحياء شعبية، ثم أصبح امتداد تلك الأحياء مناطق فقيرة وعشوائية. يضاف إلى ذلك غناء الموالد في المدن التي أتت بطبيعة الحال من الريف، وجاء بها أيضًا من انتقل من الريف واستوطن في القاهرة.
ونعلم أن مدينة القاهرة احتضنت أحياؤها الشعبية نحو 198 طائفة حرفية في أواخر القرن التاسع عشر -منها طائفة المدّاحين الآلاتية (يحترفون الغناء علاوة على العزف) والطبّالين والزمّارين. وكان لهذه الأحياء وطوائفها، طقوسها وملامحها الاجتماعية الخاصة بها، بما في ذلك الغناء والموسيقى الذي كان يصاحب المناسبات الاجتماعية والدينية، والاحتفالات الخاصة والعامة التي كانت تقام في تلك الأحياء.
وترى وداد عدس أن التداخل والتوغل الشديد بين الحِرف والطرق الصوفية الذي كان منتشرًا وبشدة في أحياء (الحرفيين) في مدينة القاهرة، يعد إحدى السمات التي ميزت شكل ونوع التديّن الشعبي فيها. لقد “استطاعت الطرق الصوفية أن تضم كثيرًا من الحِرفيين إلى صفوفها وبشكل دعا إلى ارتباط كاد يكون وثيقًا بينها وبين طوائف الحِرف. ومنذ العصر العثماني كانت كل طائفة تتخذ إحدى الشخصيات الصوفية الكبرى راعيًا لها.. وكان كل حي من أحياء القاهرة يكتسب خاصيته المميزة له من هذا الرباط القائم بين الطوائف والطرق الصوفية”.
وهذا الأمر جعل من الموسيقى والغناء والرقص الصوفي الذي تزخر به حلقات الذكر والموالد وحضرات الزار والقناوة، جزءًا أصيلًا ومحبوبًا ومتداخلًا مع الحياة اليومية والوجدانية والروحانية لدى المصريين والمصريات في أحياء القاهرة الشعبية، كما هو الأمر في ريف مصر.
وفي تقدير بعض الباحثين، فإن نهضة الموسيقى العربية الحديثة التي بزغت أوائل القرن العشرين، تأثرت تأثرًا شديدًا بالأجواء الصوفية التي عمّت وسادت واستوطنت القاهرة أعوامًا طويلة، وكان من أهم روادها الشيخ يوسف المنيلاوي (1850-1911)، والشيخ سلامة حجازي (1852-1917)، والشيخ إبراهيم اللقاني (1852-1927)، والشيخ أبو العلا محمد (1878-1927)، والشيخ سيد درويش (1892-1923)، وغيرهم.