منوعات

الحج بـ “التهريب”: “اضطررنا إلى التحايل لأداء الفريضة”

بي بي سي

“دخلوا على أهلي فجراً وخلعوا الأبواب”، هكذا قال “صابر” الشاب المصري، الذي ذهبت والدته وأخته للحج هذا العام عبر تأشيرة الزيارة التي لا يُسمح لحاملها بدخول مكة في موسم الحج، وفق تعليمات وزارة الداخلية السعودية.

وحكى “صابر”، وهو اسم مستعار، لبي بي سي أن فريقاً من الدفاع المدني بصحبة الشرطة السعودية طرقوا أبواب جميع شقق إحدى البنايات في مكة في الساعة الرابعة والنصف فجراً، ومن يرفض فتح الباب “يُفسَخ عليه”، بحسب تعبيره.

وأضاف: “دخل الرجال على غرفة النساء دون احترام لخصوصية هذا الأمر، وأخذوا أهلي وغيرهم في خمس حافلات ونقلوهم إلى الشميسي”، المنفذ الرئيسي إلى مكة.

بينما قال رجلا أمن في فيديو متداول لحادثة مشابهة، إنهما طرقا الأبواب كثيراً قبل دخول الشقق السكنية بقوة. وحاولنا التواصل مع السلطات السعودية المختصة للحصول على تعليق لكن لم نحصل على رد.

يأتي ذلك في إطار ضبط المخالفين لقوانين الحج، وفق أحدث تصريحات لمدير الأمن العام السعودي ورئيس اللجنة الأمنية للحج، الفريق محمد بن عبدالله البسامي، الذي أفاد بإعادة نحو 98 ألف مركبة مخالفة، وأكثر من 171 ألف مقيم في المملكة من غير المقيمين بمكة المكرمة، وأكثر من 4 آلاف مخالف لأنظمة وتعليمات الحج “الحج بلا تصريح”، وما يزيد عن 6 آلاف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.

وبحسب البسامي، فقد ضبطت السلطات السعودية خلال الفترة الماضية 140 حملة حج وهمية و64 ناقلاً مخالفاً لأنظمة وتعليمات الحج، في ظل إجراءات مشددة، وصفها من تحدثوا إلينا بأنها غير مسبوقة هذا العام.

كما قررت وزارة الداخلية السعودية عدم السماح بدخول مكة المكرمة أو البقاء فيها لمن يحمل تأشيرة زيارة بأنواعها كافة، بدءاً من تاريخ منتصف شهر ذي القعدة الهجري، الموافق 23 مايو/أيار 2024، ولمدة شهر هجري كامل حتى منتصف شهر ذي الحجة، أي بعد انتهاء الحجاج من أداء مناسكهم.

وأكدت الوزارة أن تأشيرة الزيارة بجميع أنواعها ومسمياتها “لا تعد تصريحاً لحاملها لأداء فريضة الحج، مهيبة بضيوف المملكة من حاملي تأشيرة الزيارة عدم التوجه إلى مكة أو البقاء فيها خلال الفترة المحددة المعلنة، مؤكدة أن من يخالف ذلك سيكون عرضة لتطبيق الجزاءات بحقه وفق ما تقضي به الأنظمة والتعليمات في المملكة”.

وعلى الرغم من اشتياق ملايين المسلمين للحج سنوياً، إلا أنه لا يتمكن من أداء الفريضة في العام الواحد سوى نحو مليوني مسلم، إذ يتسع المسجد الحرام وفق الإحصائيات الرسمية لعام 2022 لهذا العدد.

وأعلن وزير الحج والعمرة السعودي توفيق الربيعة في مؤتمر صحفي نقلته وكالة الأنباء السعودية، عن وصول نحو مليون ومئتي ألف حاج من مختلف دول العالم حتى نهاية السادس من يونيو/حزيران 2024. ومع ذلك، فإن هذه الإحصائيات لا تشمل أعداد من دخلوا بطرق تعدها السلطات السعودية مخالفة للطرق الرسمية لأداء الحج.

ورصدنا في بي بي سي عدداً من المقاطع المصورة، تداولها نشطاء من الأردن ومصر عبر وسائل التواصل الاجتماعي لعدد ممن توجهوا للحج بدون تصريح، وضبطتهم الأجهزة الأمنية السعودية وعملت على ترحيلهم، كما تمكنا من مقابلة عدد ممن أقدموا على هذه الخطوة، وننشر لكم قصصهم في هذا التقرير بعد أن فضلوا استخدام أسماء مستعارة حرصاً على خصوصيتهم.

جدير بالذكر أن وزارة الأوقاف الأردنية حذرت المواطنين في بيان من “الانسياق خلف حملات وهمية وإعلانات احتيالية تزعم تنظيمها رحلات بتأشيرات زيارة على أنها تصلح للحج”، لافتة إلى العقوبة التي تفرضها السعودية على المخالفين.

كما يفرض القانون المصري غرامة لا تقل عن مليون جنيه (21 ألف دولار) ولا تتجاوز ثلاثة ملايين جنيه (36 ألف دولار) على كل من نفذ رحلات أداء مناسك الحج بالمخالفة لأحكام قانون تنظيم الحج، مع مضاعفة الغرامة بحديها الأدنى والأقصى في تكرار الأمر.

لماذا يتجه البعض للحج “دون تصريح”؟

في الوقت الذي تضع فيه السلطات السعودية قوانين وأنظمة لاستقبال وفود الحجاج من مختلف دول العالم، تدفع أسباب كثيرة البعض إلى اتخاذ طرق مخالفة لأداء الحج، من أبرزها العامل الاقتصادي وعامل العمر.

“تكلفة الحج باهظة للغاية”، هذا ما دفع عبد الحميد، للجوء للحج دون تصريح رسمي، إذ قال إن التكلفة في بلده مصر قد تتخطى 300 ألف جنيه (6300 دولار)، في حين تبلغ تكلفة الحج بدون ترخيص ربع هذا المبلغ.

ووفقاً للمؤسسة القومية لتيسير الحج، التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي في مصر، فإن أقل برنامج للحج السياحي البري هذا العام بلغ 191 ألف جنيه مصري، أي ما يعادل نحو 4 آلاف دولار، في حين تبلغ تكلفة أقل باقة للحج بالطيران 226 ألف جنيه مصري.

وفي الأردن، تبلغ تكلفة رسوم الحج نحو 3 آلاف دينار أي ما يعادل (4200 دولار)، بينما تبلغ الكلفة للحاج بـ “التهريب”- عبر تأشيرة الزيارة، نحو ألف دينار (نحو 1400 دولار)، وفق قريب للحاج محمد وزوجته إيمان اللذين يسعيان لأداء المناسك حالياً عبر تأشيرة الزيارة.

وتحدث آخرون في الأردن عن كلفة قد تصل إلى ألفي دينار للحاج غير النظامي، أي ما يقارب 2800 دولار.

في المقابل، تبلغ تكلفة الحج البري من الأردن في إطار الفئة العادية نحو 3090 ديناراً (4360 دولاراً)، وترتفع إلى 4700 دينار أردني (6630 دولاراً) للفئة المميزة بالطيران وبفنادق الخمس نجوم والتي لا تبعد 500 متر عن ساحات الحرم.

ومع ذلك، فإن الكلفة المادية ليست وحدها السبب، كما يفيد قريب كل من محمد (74 عاماً ) وإيمان (59 عاماً)، إذ يعد عامل العمر مهماً لمن حاول الحج بتصريح رسمي ولم يحصل على فرصة.

ووفقاً لوزير الأوقاف الأردني محمد الخلايلة، فإن 23 ألف أردني ممن تزيد أعمارهم على 53 عاماً سجلوا لأداء فريضة الحج.

وصرح الناطق باسم الوزارة علي الدقامسة أن الاختيار ضمن الكوتا المخصصة للأردن كان لفئة الأعمار من مواليد عام 1952 فما دون.

أما بالنسبة لصابر، الشاب المصري، فلم تكن أزمة والدته مادية في المقام الأول، حيث حاولت منذ نحو خمس سنوات الذهاب للحج عن طريق القرعة، لكن بدون جدوى.

ويعد حج القرعة الرسمي في مصر أقل تكلفة من الحج السياحي، حيث يبدأ من 150 ألف جنيه مصري (3150 دولاراً)، غير شامل تذاكر الطيران.

ويصف صابر لهفة والدته للحج قائلا: “في كل عام، تشاهد أمي الحجاج على الشاشة وتبكي وتقول إن الفرصة تضيع وإنها ترغب في الحج قبل أن يصيبها مكروه”، ما دفعه في النهاية للجوء إلى تأشيرة الزيارة لها ولابنتها كذلك حتى تتمكن من رعايتها.

ويزداد الأمر تعقيداً بالنسبة للمقيمين في السعودية، وفقاً لسعيدة، السيدة المصرية التي تعمل هناك، والتي وقفت حائرة بين تكاليف تجديد الإقامة لابنها وابنتها اللذين عادا إلى مصر لاستكمال الدراسة، وبين كلفة تأشيرة الحج، إذ تقول إن كلفة تجديد الإقامة للمرافق الواحد لمدة عام تبلغ نحو 1280 دولاراً على الأقل، ناهيك عن رسوم تأشيرة الحج.

وفي حديثها لـ بي بي سي تقول سعيدة إن التكاليف المرتفعة “أجبرتها على التحايل”، عبر إصدار تأشيرة زيارة لابنها وابنتها بكلفة أقل ليتمكنا من أداء فريضة الحج.

ونقلت صحيفة عكاظ السعودية عن وزارة الحج والعمرة في شباط/فبراير الماضي، أن أقل تكلفة للحج للمقيمين والمواطنين تبلغ نحو 4 آلاف ريال سعودي أي ما يعادل ألف دولار، وهو ما تصفه الوزارة بالحج ضمن النطاق الاقتصادي.

“عُزلة تامة”

حاول “محمد” منذ ست سنوات أن يحصل على تأشيرة رسمية للحج من بلده الأردن، لكن دون جدوى، وكذلك الحال بالنسبة لزوجته، فاستعانوا بإحدى الحملات التي وفرت لهما سكناً في حي قريب من مكة، على أن لا يخرجوا منه لمدة 26 يوماً، إلى حين موعد أداء مناسك الحج، وتوفر لهم أيضاً ما يلزمهم من مأكل ومشرب، بحسب ما أفاد قريبهم لـ بي بي سي.

بينما يقول عبد الحميد إنه سافر من مصر إلى السعودية بتأشيرة الزيارة، ودخل مكة عبر أحد الطرق غير المأهولة، لكنه مضطر إلى العزلة الكاملة في شقة وفرها له مسؤول الحملة، خوفاً من ضبطه من الشرطة السعودية.

وأضاف لبي بي سي: “أنا لا أخرج أصلاً من مكاني، ومسؤول الحملة هو من يُحضر كل ما أحتاجه من الخارج”.

ونظراً لتشديد الإجراءات حالياً في مكة، فإن الكثير من الرجال يلجأون إلى السفر دون ارتداء ملابس الإحرام، وفق ما رصدنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويُشترط على الرجال وفق الشريعة الإسلامية ارتداء “الإحرام” وهي ثياب غير مَخيطة، بيضاء اللون، ويلزم مخالف ذلك لأي سبب أن يدفع ثمن “فدية”. أما النساء فيرتدين ما يشأن، وهو ما يسهل عدم التفرقة بين الحاجّة وغير الحاجّة منهن.

وبالنسبة لـ”سعيدة” التي أدت فريضة الحج العام الماضي، فتقول إنها دفعت مبلغاً مالياً لإدخال أسرتها إلى مكة بشكل غير قانوني، واعتمدت في الإقامة بمكة على المعارف، وظلت هناك لحين يوم عرفة في خطوة احترازية خوفاً من ضبطها أمنياً.

وتحدث مجد من الأردن لـ بي بي سي عن تواصله مع شركة للحج والعمرة في بلده، تعمل على توفير عمل لمن يرغبون بالحج دون السن المسموح بها في الأردن. إذ توفر لهم على سبيل المثال فرص عمل كجزارين للأضاحي، ما يسمح لهم بدخول الحرم المكي وأداء فريضة الحج. حصلنا على اسم الشركة وحاولنا التواصل معها لكن لم يتسنَّ الحصول على رد.

وعلق الناطق الإعلامي باسم وزارة الأوقاف الأردنية علي الدقامسة بالقول: بيعت بعض التأشيرات للأردنيين بمبلغ وصل إلى ألفي دينار أردني أحياناً في “تغول على المواطن عبر الشركات”، مضيفاً “نحن لم نبلغ عن أي حالة عن حجاج المخالفين، ولسنا مسؤولين عنهم لكننا نحذر من التوجه للحج بهذه الطريقة”.

ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لمصر، فقد سبق أن تحدثت بي بي سي العام الماضي مع شاب مصري غيّر بيانات بطاقته الشخصية إلى وظيفة عامل، من أجل أداء فريضة الحج.

الاندماج داخل الحملات

لا تتوفر للحجاج المخالفين خيم للإقامة، بعكس الحجاج النظاميين، ما يجعلهم يفترشون المساجد والطرق في حرارة تتراوح هذا العام حول 45 درجة مئوية.

وتحدثت إلينا سيدة تعيش هناك، تقول إن السلطات السعودية توفر حافلات مجانية داخل مكة، لكنها أحياناً تمر بنقاط تفتيش مفاجئة لكشف المخالفين.

ويقول عبد الحميد إنه سيبدأ شعائر الحج من عرفات، حيث سيركب حافلة مستأجرة مصرَّحاً لها بالدخول إلى المشاعر المقدسة، ليندمج داخل حملات الحج النظامية من خلال مسؤول الحملة، بكلفة تبلغ نحو 500 ريال سعودي (130 دولاراً).

واتبعت “سعيدة” الإجراء ذاته العام الماضي، حيث بدأت مناسك الحج مع ابنها وابنتها، وأقاموا في أحد المخيمات النظامية، وأتموا بقية الشعائر ورحلوا في سلام دون أن يلاحظهم رجال الأمن.

لكن في المقابل تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لدوريات مكثفة تابعة للشرطة السعودية لضبط المخالفين، وأخرى لحجاج غير نظاميين من الأردن ومصر بعد أن ضبطتهم السلطات السعودية. ولم يتسن لـ بي بي سي التحقق من هذه المقاطع.

كما حصلت بي بي سي على صور توثق لحظة دخول رجال الأمن السعوديين بعض بيوت غير النظاميين، بمساعدة رجال الدفاع المدني.

سشسشسء

وأثارت تلك الصور والمقاطع المصورة انتقادات بعض رواد مواقع التواصل، الذين رأوا ضرورة السماح لمن دخل مكة بأداء النسك، رغم المخالفة القانونية، مستشهدين بآية قرآنية تقول: “ومن دخله كان آمناً”، في إشارة إلى المسجد الحرام ومدينة مكة بشكل عام، التي يعدها المسلمون كلها كالحرم فهي “البلد الحرام”. بينما قال آخرون إن على الراغب بالحج أن يلتزم بالقوانين المفروضة.

“لا يجوز” شرعاً

أكدت هيئة كبار العلماء في السعودية، أن الالتزام باستخراج تصريح الحج والتزام قاصدي المشاعر المقدسة بذلك يتفق والمصلحة المطلوبة شرعاً، حيث جاءت الشريعة بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وأوضحت بأنه “لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح، ويأثم فاعله، ومن لم يتمكن من استخراج التصريح فإنه في حكم عدم المستطيع”.

وفي مصر، أكد الدكتور محمد عبد السميع، أمين الفتوى بدار الإفتاء، بأن من يذهب ليعتمر، وظل متخفياً ينتظر موسم الحج، يأثم شرعاً لأنه لا يجوز ذلك، ولكن حجه وعمرته صحيحة.

وأكد في فيديو بثته دار الإفتاء المصرية على صفحتها الرسمية على فيسبوك، رداً على سؤال حول حكم الحج بغير تصريح، أن الحج بدون تصريح يتسبب في عدة مشكلات، منها أنه لو زاد العدد، فسيؤدي إلى كثرة التزاحم بين الحجيج، وما يترتب عليه من مشكلات.

وأوضح أن هذه الحالة تشبه حكم من سرق زجاجة ماء ليتوضأ للصلاة، موضحاً أن صلاته صحيحة، لكنه يأثم لأخذه مالاً بغير حق.

“جازفت بكل شيء”

يقول “صابر” إن الأمر بات مكلفاً، بعد أن كان معقولاً، خاصة مع حساب الطعام والشراب الذي يصل إلى أهله حالياً عن طريق “توصيل الطلبات” خوفاً عليهم من التحرك خارج المكان، بالإضافة إلى تكلفة الفندق في جدة، والسيارة التي ستنقلهم سراً إلى مكة، ما جعل تكلفة الحج تكاد تصل إلى تكلفة الحج الرسمي.

وختم حديثه قائلاً: “أشعر بالعجز الرهيب، لا أدري ماذا يمكنني أن أفعل من أجلهم، ولا أتخيل كيف سيكون حال والدتي إذا لم تتمكن من الحج. كل ما يهمني هو يوم عرفة، حتى لو وصل بهم الأمر بالبقاء لنصف ساعة فقط”.

وفي ظل الإجراءات المشددة والمخاوف من العقوبات، يعيش عبد الحميد حالة من الخوف والترقب والحذر، لحين انتهاء أداء مناسك الحج التي لم تبدأ بعد، قائلاً “أنا لا أتمالك قلبي من التفكير في هذا الامر كثيراً، ولا أعرف ماذا يخبئ لي القدر”.

وأوضح لبي بي سي أن أكثر ما يخيفه هو ترحيله حال اكتشاف أمره “إذا كُشف أمري وأُخِذَت بصمة مني، فلن أستطيع دخول المملكة لسنين قادمة”.

وأضاف “عبد الحميد”: “لقد جازفنا بكل شيء في سبيل أداء طاعة لله عز وجل وتحقيق حلم عمر بالكامل لأداء هذه الشريعة، والله يرزقنا الحج والوقوف بعرفة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى