التراث العربي المسيحي
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
“إن المسيحيين ليسوا غرباء عن الثقافة العربية أو دخلاء عليها، بل هم إن جاز التعبير حجر زاويتها، وهمزة الوصل بينها وبين ثقافة العالم القديم؛ فقد أسهموا في نشأتها وتطويرها وانتشارها إسهامًا لا ينكره إلا الجاهل أو المغرض”.
هكذا تحدث الراحل الأب ناوفيطوس أدلبي رئيس أساقفة حلب للروم الكاثوليك في مقدمة كتاب “مقال في التوحيد” للفيلسوف المسيحي البغدادي يحيى بن عدي (893 – 974 م)، وهو الكتاب الذي قام بتحقيقه الأب سمير خليل اليسوعي، ونشرته المكتبة البلوسية في لبنان عام 1980.
يؤكد الراحل الأب ناوفيطوس أدلبي في هذا الاقتباس على أهمية إدراك الباحثين والمثقفين العرب جميعًا لمدى عمق وتأثير إسهامات المسيحيين العرب في إثراء الثقافة والحضارة الإسلامية، ويلفت الأنظار إلى التراث العربي المسيحي بوصفه ميراثًا معرفيًا وثقافيًا لكل العرب، ومنبعًا ورافدًا من منابع تكوين وروافد الثقافة والهوية العربية والإسلامية.
وللأسف الشديد فإن تعريف ودلالات مصطلح “التراث العربي المسيحي” يغيبا عن وعي الكثير من الباحثين والمثقفين العرب، رغم أنه جزء من ميراثهم الثقافي، مثلما يغيب الوعي بالتراث القبطي في مصر عن كثير من المثقفين المصريين رغم أنه جزءُ مهمًا وأصيلًا من ميراثهم الثقافي الوطني مسيحيين ومسلمين.
في هذا الصدد، يذكر الأب سمير خليل اليسوعي أستاذ الأدب العربي المسيحي في المعهد البابوي الشرقي في روما، أن التراث العربي المسيحي، هو “كل ما ألفه المسيحيون باللغة العربية، سواء كان المضمون دينيًا مسيحيًا أو غير ديني. وسواء كان موضوعًا أصلًا باللغة العربية أو مترجمًا إلى العربية؛ فالمؤلفات الأدبية والطبية والعلمية والفلسفية مثلاً التي ألفها المسيحيون تدخل في التراث العربي المسيحي، كما تدخل فيه أيضًا ترجمات الكتاب المقدس، وكتابات آباء الكنيسة، وقوانين المجامع … الخ”.
أما الأب سهيل قاشا فقد حدد في كتابه ” تاريخ التراث العربي المسيحي” معنى التراث العربي عامة، ثم التراث العربي المسيحي خاصة، فذكر أن المعنى المقصود بمفهوم التراث العربي هو “كل ما كُتب باللغة العربية، سواء كان ذلك موضوعًا أصلًا باللغة العربية أو مترجمًا إليها من لغات أخرى، بصرف النظر عن أصل المؤلف أو المترجم إذا قد يكون روميًا أو سريانيًا أو قبطيًا”.
أما المعنى المقصود التراث المسيحي، فهو: “كل ما كُتب على يد مسيحي سواء كان ذلك من التراث الديني أو التراث الأدبي أو الفلسفي أو العلمي، أي أن الموضوع لا ينحصر في اللاهوت أو الديانات وإنما يشمل جميع ألوان الإنتاج الفكري”.
وبالبحث في دلالات وجوانب تطبيق هذا التعريف في المؤلفات التي اعتنت بالتراث العربي المسيحي، يتبين لنا مدى ثراء وقيمة التراث العربي المسيحي. ويتبين كذلك وجود عدد كبير من المؤلفين العرب المسيحيين الذين يكاد الجمهور المثقف في بلادنا يجهلهم تمامًا رغم أن هؤلاء قد خلفوا للثقافة العربية الإسلامية آثارًا فكرية قيمة في مختلف ميادين المعرفة الدنيوية كالطب والفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة وعلم الكلام واللاهوت والتاريخ والقانون واللغة العربية والشعر.
كما أننا سوف نُدرك حقيقة مهمة في ترسيخ مفهوم المواطنة والعيش المشترك، وهي أن المسيحيين العرب قاموا بدور عظيم في نشأة الثقافة العربية الإسلامية، وأنهم أصحاب جذور عميقة في تراثنا العربي، وأننا جميعًا مسلمين ومسيحيين شركاء في الأرض والثقافة وأعضاء في جسم المجتمع العربي الواحد في الماضي والحاضر والمستقبل.