الألمعي الذي أراد ان يلمس السماء بعصاه ..!
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يبدو الشاعر محمد زايد الألمعي للناظرين بجسمه النحيف، وملامحه الدقيقة، وصوته الشجي، وحيويته المتوقدة، وبساطة مظهره، وعشقه لمباهج الحياة مثل “شاعر جوال” ينتمي إلى زمن حميم وحنون لا علاقة له بعالمنا القاسي الفاقد للمعنى.
ولهذا فهو يبعث فيك مشاعر الثقة والأمان والألفة بمجرد رؤيته والحديث معه، فترغب في الاقتراب منه والدخول إلى عالمه؛ لتكتشف بعد ذلك الاقتراب أنك دخلت في ملكوت إنسان نادر، متعدد الوجوه وروافد التكوين، وأنه صوفي عظيم على طريقته الخاصة، له ظاهر متاح للعامة، وباطن للخاصة فقط.
ولتكتشف بعد القرب أيضًا أنه ابن أصيل ونبت بهي لجلال وجمال جغرافيا وطبيعة منطقة “عسير”، وأنه يُخفي في أعماقه جينات وسمات أسلافه الجبليين الذين غالبوا صعوبات البيئة والحياة زمنًا طويلاً، ويمتاز مثلهم بالذكاء الفطري، وعزة النفس وشموخ الروح. ورفض كل صور الاستسلام والهزيمة، وكل صور قبح وظلم الأمر الواقع.
ولهذا قال في قصيدته أناشيد الشمس:
عندما أخرج في العتمة
محمولًا على شمس جديدة
أفضح الشمس التي تكذب للموتى وتغفو
أفضح الشمس العتيدة
ثم أبني وطنا من أبجديات الحجارة
وطنا يقتنص البرق
وينقض على ثلج الهنيهات البليدة
وطنا عذبا يرجّ الماء في غصن السؤال.
وهو إلى جانب تلك السمات النفسية والخُلقية، صاحب حظ وافر من المزايا الإبداعية والعقلية؛ فهو شاعر أصيل متفرد، متمكن من أدواته، له حضوره وصوته الشعري المتميز، وقاموسه اللغوي الذي ينحت مفرادته وتعبيراته وصوره من جبل خفي من الكلمات لا يعرف أحد طريقه غيره.
وهو قبل كل ذلك عاشق أصيل للمرأة التي تعذب بوجودها وفقدها كثيرًا، وظل يبحث عنها وعن لغة مشتركة بينهما دون جدوى، فكتب يقول في قصيدته عن اللغة الممكنة:
في شوارع لا ترفض الغرباء
ضائعين نفتش فينا عن البسطاء الحميمين والحالمين
أنتِ لا تعرفين التعطش في شاعر
يرسم امرأة في ضفاف يديه ويجعلها صهوة للبكاء
وأنا أجهل الكلمات التي تخلق الشعر من قسمات النساء
كم أرانا قريبين من بعضنا
حين نستغرب البحث عن لغة
خبأتها المسافة ما بيننا
إنها اللغة الممكنة
لغة الماء والسوسنة
لغة الأرض والأحصنة
لغة تمزج الكون في سمت من كوّنه.
وقال أيضًا عن الخلاص بالأمل والعشق والمرأة الحلم:
فلنفترض مطرا لنورقْ
ووميض أمنية لنشرقْ
ولنجعل الأحلام تكتبنا
وترفعنا على الأيام بيرق
ولنفترض أشياء تفرحنا قليلا
قبل تخذلنا لعل الوهم يصدق
هذا الذي نحيا به دون الفناء
ونرتجيه قبيل نغرقْ
فنؤجل الأقدار والأعمار بالهذيانِ للأوطانِ
غافلةً عن الإنسان بالنسيان والعبث المنمق
ولنفترض أنا عشقنا مثل كل الناس
أشعلنا الحكايات الشفيفة
تستلذ بها أمسياتنا
تؤججنا فتبهجنا
وتوجعنا فنقلق
ونعود مأخوذين نفترض النساء
فنرتجي أطيافهنّ يلجن في الأحلام
يغسلن الجلود المترباتِ الظامئاتِ لغيمةِ الجسد المعتَّـقْ
ونعشقُ .. ثم نعشقُ .. ثم نعشقْ.
ومحمد زايد الألمعي إلى جانب شاعريته المتفردة، مفكر ذو ثقافة رفيعة وحس فلسفي عميق مكّنه من النفاذ إلى ما وراء الأشياء والأحداث والأشخاص ليرى الأمور كما هي لا كما يُراد له أن يراها.
وهو رمز من رموز الحداثة في المملكة العربية السعودية، وقد خاض من أجل رفض التوظيف السياسي للدين، ومن أجل نشر أفكار وقيم الحداثة معارك كثيرة، ودفع لهذه المعارك ثمناً كبير.
ويكفي هنا قوله منذ زمن بعيد بشجاعة نادرة قبل التحولات التي شاهدتها الملكة العربة السعودية في العقد الأخير:
أعيدوا المساجد لله
والقمح للمنحنين أمام محاريثهم في الحقول
ولا تجمعوا بين جوع جماجمكم
والجياع المساكين تحت جنى الجنتين الظليل.
رحم الله الإنسان والمفكر والشاعر الراحل محمد زايد الألمعي الذي عرفته منذ أكثر من عشرين عامًا، واقتربت منه، فأراني دفاتره وخرائط أحلامهِ، والذي رحل عن دنيانا فجأة مساء الأحد الماضي في إحدى مستشفيات مدينة القاهرة التي أحبها كثيرًا، وهو في سن الثامنة والستين من عمره دون أن يحقق الكثير من تلك الأحلام، ودون أن يقول كل ما كان يريد.
رحم الله محمد زايد الألمعي ذلك العجوز الولد، الذي حلم منذ صباه أن يلمس السماء بعصاه إذا ما علا جبال عسير، ثم عاد إليها بعد غربة طويلة، ليُدفن في ثراها بجوار أمه وأبيه وجدته الحكيمة المُلهمة التي عشقها منذ طفولته وظل يبحث – دون جدوى – عن صورتها وحنانها في كل النساء التي عشقها.
رحم الله محمد زايد الألمعي الذي رثى ذاته ببصيرة وسخرية قبل أن نرثيه نحن اليوم، فكتب يقول:
سأموت قليلاً
وستحزنون مؤقتاً
وبعدها ستحتفلون
وتتحدثون عن عمق سخريتي
وذكاء التافه من أقوالي
وسوف تتجاهلون القصائد التي أحببتُ
وتبررون أخطائي
والشعر العظيم
الذي لم أقلّه بعد.