أسوأ خطة عسكرية في التاريخ
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
د. ياسر ثابت
في الكتاب الممتع «القاهرة مؤرخة: فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبر الزمن» (دار العين، 2024)، تستوقفك فقرةٌ دالة كتبها محرر الكتاب د.نزار الصياد في جزئه الأول؛ إذ يقول: «عندما يتحدَّث أحدُنا عن القاهرة، يتحدَّث عما يعرفه منها أو عنها، فلكل منا قاهرة خاصة ومختلفة. لیست هناك قاهرة واحـدة، بـل عـدة قاهرات، وكلٌّ منا يعرفُ المدينة من خلال الأحياء التي يعيش فيها أو يعمل بها أو يزورها أو يدرسها».
العبارة صحيحة، فهناك قاهرة الفسطاط أو مصر القديمة، المدينة التي وُجِدت قبل القاهرة وبدونها لم يكن للقاهرة حياة. وهناك القاهرة، المدينة التاريخية ما بين الاٍوار الفاطمية. وهناك قاهرة صلاح الدين، المدينة الموحدة التي غيّرت ثقافة مصر كلها. وهناك قاهرة المماليك، المدينة التي أضحت من أجمل مدن العالم وأهمها في العصور الوسطى.
يزخر الكتاب بالكثير من الحكايات والقضايا المتعلقة بالقاهرة، وقد احتشد للتصدي لها عددٌ من العلماء والكُتَّاب الكبار والشباب، ممن ركزوا على حالة القاهرة من منظورين؛ الأول تاريخي والثاني تمثيلي. عبد الرحمن الطويل، وطارق سويلم، وحسن حافظ، وأمنية عبد البر، وناصر الرباط، وحامد محمد حامد، ومعاذ لافي، ومحمد حسان الدين إسماعيل، وخالد فهمي، وعمرو عصام وعاطف معتمد. كلُّ واحدٍ من هؤلاء، وغيرهم، جعلوا من الكتاب كنزًا ثمينًا لأي باحثٍ أو مهتم بالتاريخ.
أتوقف هنا -مستعينًا بالكتاب ومراجع أخرى سأذكرها في موقعها- عند ما يمكن وصفه بأنه أسوأ خطة دفاعية شهدتها مصر في تاريخها، ونعني بذلك الحريق الذي أمر الوزير الفاطمي شاور بن مجير السعدي بإشعاله في الفسطاط عام 1168، خوفًا من هجمة صليبية وشيكة بقيادة مري ملك الفرنج!
كان شاور قد شرع في بناء سور على مدينة مصر واستعمل فيه الناس فلم يبق أحد من المصريين إلا وعمل فيه؛ وحفر من ورائه خندقًا، فلم يكمل من ناحية النيل. وعمل في السور ثمانية أبواب أحدها بدار النحاس على ساحل البحر، هدم في سنة وخمسين وستمائة وآخر بجانب كوم البواصين، وثالث على سكة سوق وردان سقط سنة إحدى وستين وستمائة، وباب في طريق زين العابدين، وباب عرف بباب الصفاء، وباب بحري مصلي الأموات سقط قبيل سنة خمسين وستمائة، وباب عند أقمنة الجير مما يلي درب السرية، وباب لقنطرة بني وائل وتحته قنطرة بني وائل التي تصب في بركة الشعيبية، التي كانت قديمًا بستان الأمير تميم بن المعز، وكان الماء يدخل إليها من خليج مصر.
في أحد فصول الجزء الأول من كتاب «القاهرة مؤرخة: فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبر الزمن»، يحاول عبدالرحمن الطويل استكشاف الأسباب العسكرية والاجتماعية لعدم تسوير المدينة والبدائل التأمينية التي وفَّرتها السلطات في العصور المختلفة، وأول سبب يراه هو أن المدن الأمصار التي أسَّسها العرب في عصر الفتوحات لم تعرف التسوير، مَثَلُ الفسطاط في هذا كمثل البصرة والكوفة، والسبب الثاني أن العرب في جاهليتهم لم يعرفوا المدن المسوَّرة إلا باستثناءات محدودة وكان الغالب عليهم المدن والقرى ذوات الحصون، يلجأون إلى حصونها إذا دهمهم عدو، والثالث أن المدينة ظلت عاصمة ولاية لمدة قرنين ونصف منذ نشأتها، ولم تحكمها أسرة حاكمة يشغلها تأمين ملكها وحمايته من غزو الغزاة، والرابع أن الفسطاط نشأت منذ اللحظة الأولى على ساحل النيل، ومع نمو المدينة صار دور الميناء التجاري، على النيل، أحد أدوارها الأساسية، وأحد أسباب ازدهارها الاقتصادي غير المسبوق.
وكثيرًا ما لفتت كثرة السفن على ساحل الفسطاط انتباه الرحَّالة والزائرين وانتزعت دهشتهم، كما يحكي المقدسي، الذي زارها في بداية العصر الفاطمي. يقول المقدسي في « أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» : «وكنتُ يومًا أتمشَّى على الساحل وأتعجَّب من كثرة المراكب الراسية والسائرة، وقال لي رجل منهم من أين أنت؟ قلت من بيت المقدس، قال بلد كبير، أُعلمُك يا سيدي، أعزَّك الله، أنَّ على هذا الساحل، وما قد أقلع منه إلى البلدان والقرى، من المراكبِ ما لو ذهبتْ إلى بلدِك لحملتْ أهلّها وآلاتِها وحجارتَها وخشبَها حتى يُقال كان ها هنا مدينة».
لم تعرف الفسطاط سورًا طيلة القرون الخمسة الأولى، كما يذهب الطويل، ولم تشهد محاولة لتسويرها إلا بعد 543 عامًا من بنائها، وهو ما منحها حرية التوسعِ والتمدُّدِ في عصورها المُبكِّرة فنشأت خططها خلال عصر التأسيس متباعدة، وعلى رقعة شاسعة، ومن إحدى هذه الخطط ظهرت القرافة، فباتت مدينة للموتى والأحياء معًا، وتمددت شرقًا وشمالًا وجنوبًا لتمنح صفتي الازدواجية والاتساع لجبَّانات القاهرة.
إلا أن مدينة الفسطاط تعرّضت في عام 1168 لأقسى ضربة أضرَّت بعمرانها، وأفقدتها مكانتها في صدارة المدن بمصر لصالح القاهرة.
ففي هذا العام تمكَّن الفرنج من ديار مصر وحكموا فيها حكمًا جائرًا، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم وقد تيقنوا أنه لا حامي للبلاد، وتبيّن لهم ضعف الدولة وانكشفت لهم عورات الناس. فجمع مري جموعه واستشارهم في قصد ديار مصر، فقووا عزمه على المسير إليها فأجمع أمره على الرحيل واستدعى وزيره وأمره بإقطاع بلاد مصر لأصحابه، ففرق قراها عليهم بعد ما كتب جميع قراها وارتفاع كل ناحية؛ واستنجد عسكرًا قوي به جنده.
وحاصر البلد حتى افتتحها قهرًا بالسيف يوم الثلاثاء ثاني صفر وأخذ الطاري والناصر ابني شاور أسيرين، وقتل جميع من كان فيها وأسرهم وسباهم ونهب سائر ما تحتوي عليه وأسر المعظم سليمان بن شاور وقيس بن طي بن شاور.
وأرسل إلى شاور يقول له: إن ابنك قال أيحسب مري أن بلبيس جبنة يأكلها! نعم بلبيس جبنة والقاهرة زبدة (اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، جـ 3).
صعد شاور إلى الخليفة العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف، وسأله مكاتبة نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام، وطلب معونته فإن الفرنج قد ملكوا بلبيس والمسلمون يضعفون عن وقفهم وأنه متى حصل التقاعد أُخِذت مصر وأسر الفرنج من فيها من المسلمين ويحثه على إرسال من يتدارك هذا الأمر.
ويقول ابن الأثير (الكامل في التاريخ) إن جماعة من أعيان المصريين كانوا قد كاتبوا الفرنج، ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور، منهم ابن الخياط، وابن قرجلة، وجماعة؛ فقوي جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا إلى القاهرة عاشر صفر، وحصروها، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه، فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ما فعلوا؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر عام 564 هـ (1168 م)، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد، فانتقلوا، وبقوا على الطرق، ونهبت المدينة، وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملكها الفرنج، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا.
ويقول المقريزي:
«وإذا بشاور قد قام في حريق مصر، وأمر شاور الناس بالانتقال منها إلى القاهرة، وحثهم على الخروج منها. فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم وأولادهم وحرمهم؛ وقد ماج الناس واضطربوا اضطرابًا عظيمًا.
ووقعت النار في الأسطول فخرج العبيد إلى مصر وقد انطلقت النار في مساكنها فانتهبوا سائر ما كان بمصر. وبلغ بالناس الحال أن كانت الدابة تكري من مصر إلى القاهرة ببضعة عشر دينارًا والجمل بثلاثين دينارًا. ونزلوا بمساجد القاهرة وحماماتها، وملأوا جميع الشوارع والأزقة، وصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم على الطرق وقد ذهبت أموالهم وسلبت عامة أحوالهم؛ وهم مع ذلك ينتظرون هجوم الفرنج على القاهرة وقتل رجالها وسبي من بها من الحريم والصبيان.
وكان ابتداء الحريق بمصر في يوم الثلاثاء التاسع من صفر الموافق له ثامن عشر هاتور؛ واستمرت النار في المساكن أربعة وخمسين يومًا، والنهابة تهد ما هنالك وتحفر لطلب الخبايا».
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويُعرِّفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك؛ لتنقذهن من الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش.
يضيف المقريزي:
«ونزل مري بعساكره على بركة الحبش في يوم الأربعاء العاشر من صفر، فخرج إليه شمس الخلافة. فلما دخل إليه سأله أن يخرج معه إلى باب الخيمة، فخرج؛ فأراه شمس الخلافة جهة مصر وقال له أترى دخانًا في السماء؟ قال: نعم. قال: هذا دخان مصر ما أتيتك إلا وقد احترقت بعشرين ألف قارورة نفط وفرق فيها عشرة آلاف مشعل، وما بقي فيها ما يؤمل بقاؤه ونفعه؛ فخل الآن عنك. فقال مري: لا بدَّ من النزول على القاهرة ومعي فرنج من هذا البحر قد طمعوا في أخذها.
ثم رحل فنزل على القاهرة في عاشر صفر مما يلي باب البرقية نزولًا قارب به البلد حتى صارت سهام الجرخ تقع في خيمه. وقاتل أهل القاهرة قتالًا شديدًا وحفظوها وبذلوا جهدهم. واشتد الفرنج في محاصرة القاهرة وضيقوا على أهلها حتى تزلزل الناس زلزالًا شديدًا وضعفت قواهم، وشاور هو القائم بتدبير الأمور، فتبيّن له العجز عن مقاومة الفرنج وأنه يضعف عن ردهم. وخاف من غلبتهم فرجع عن مقاومتهم إلى مخادعتهم وإعمال الحيلة؛ فأرسل شمس الخلافة إلى مري يطلب منه الصلح على أن يحمل إليه أربعمائة ألف دينار معجلة. فأجاب إلى ذلك. ويقال إنه خوَّفه من نور الدين واعتذر بأنه لولا الخوف من العاضد ومن معه من المسلمين وإلا سلّمه البلد؛ وإنه تقدم له بألف ألف دينار. فتقرر الصلح».
وبرواية ابن الأثير، فقد سارت الأمور على النحو التالي:
«وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم، فأخذ إلى إعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له، وأن هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال لئلا يتسلم البلاد نور الدين، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض، ويمهل بالبعض، فاستقرت القاعدة على ذلك».
أما نهاية شاور فقد كانت القتل؛ إذ قتله أسد الدين شيركوه بن شاذي بأمر من الخليفة العاضد لدين الله؛ حيث يُذكر أن شاور قد دعا صلاح الدين الأيوبي وعمه إلى وليمة ووضع فيها السم، لكن ابن شاور قد أبلغ صلاح الدين وعمه بالأمر، وعندما لم يأتوا للوليمة ذهب شاور بنفسه إلى معسكرهم فقتلوه.