أسطورة أمل دنقل ويحيي الطاهر عبد الله
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
الموت المبكر في حياة المبدعين الأصلاء فضيلة عظيمة، ووسيلة لصنع أسطورتهم الأدبية؛ لأنه يجنب المبدع الأصيل الملتزم الدخول في التجربة، وخيانة قناعاته ومبادئه وأحلام شبابه.
وهذه الفضيلة غير مكتسبة، بل منحة من القدر الذي يجعل حياة المبدع بيننا ومضة خاطفة، كشهاب يمر بحياتنا ينير في لحظة دروبنا، ثم يختفي، لنعلم بعد ذلك أنه لم يكن يضيء فقط، بل يحترق أيضًا .
وخير من ينطبق عليهما هذا الوصف هما الراحلان عن دنيانا في سرعة البرق، الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله (30 أبريل 1938 – 9 أبريل 1981)، شاعر القصة القصيرة وصاحب “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”، والشاعر الجنوبي الراحل أمل دنقل ( 1940 -21 مايو1983) صاحب “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”.
وأظن أن من أهم أسباب صنع أسطورة يحيي الطاهر عبد الله وأمل دنقل، وحضورهما الإنساني والإبداعي المتجدد إلى اليوم في ثقافتنا المصرية والعربية، هو موتهما المبكر مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهما في قمة توهجهما الإبداعي، وعند بداية سن الأربعين.
لكني دائما ما أطرح على نفسي هذا السؤال: ماذا لو امتد بهما العمر إلى الآن ليصبحا اليوم فوق سن الثمانين؟
ما الذي كان سيفعله بهما الزمان، وهزيمة الأحلام، وأعباء الحياة والأسرة والأبناء؟
هل كانت لتخف حدة وجموح يحيى الطاهر عبد الله، ورغبته في التحرر من القيود وأي التزام، بوصفه مبدعا وفنانا، ويقبل بوظيفة روتينية ما، لتنضب موهبته، ويكف عن كتابة القصة القصيرة من سنين؟
وهل كان يمكن لأمل دنقل أن يتحرر من التزامه الشعري والطبقي والوطني، وينتهي إلى القناعة بعدم جدوى المقاومة بالكلمة، ويتفرغ في خريف حياته لكتابة أغاني المسلسلات والمتاجرة بشعره ونموذجه الصعيدي المحبوب؟
ربما حدث ذلك، وانتهى يحيي الطاهر عبد الله وأمل دنقل إلى ما انتهى إليه الكثير من أبناء جيلهما.
وربما ظلا وفيّين لمبادئهما واختياراتهما في الحياة، وأحلام شبابهما؛ ولوجدنا يحيى الطاهر عبد الله بيننا اليوم، يكتب بصدقه المعهود باقي حقائقه القديمة الصالحة لإثارة الدهشة، ويُجسد بحساسيته الإبداعية الفائقة دراما حياة المصريين اليوم، ويُخاطب الكادحين وملح أرض هذه البلاد بمقولته الخالدة:
“ارفع فأسك المصرية، وبيديك القادرتين هاتين، اضرب واجرح الأرض كما لو كنت تقتل حية. مزق جسد الصخرة، وارفع حاجز الموت عن الشجرة التي تمنحك الظل والثمرة”.
ولوجدنا أمل دنقل في نهاية حياته على نفس درجة التزامه وصلابته القديمة، ليردد بين الناس لآخر يوم في حياته انشودته العظميمة التي تقول:
آه.. ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر
كي ننقب ثغرة
ليمر الضوء للأجيال مرة
ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق.
لكن الشيء المؤكد أن موتهما المبكر كان بالنسبة لهما طوق نجاة، وهو الذي صنع أسطورتهما الخاصة الحية بينا، لأنه جنّبهما الدخول في التجربة، والمرور بدراما تحولات المثقفين والكتاب في العقود الأخيرة، بدافع الهزيمة النفسية وخيبة الأمل، وموت الأحلام الكبرى، والانغماس في مشاغل وأعباء الحياة وطلب الرزق.