أحمد زكي.. الكاذب البارع
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
يأتي كتاب “كلمات ليست كالكلمات” (دار المحرر، 2023) للصحفية هانم الشربيني، لتضيف لبنة جديدة إلى مشروعها للكتابة عن الفنان أحمد زكي، بعد أن أرست قواعد هذا المشروع في كتابها السابق “أوراق أحمد زكي: خطابات الغرفة 2229”.
ربما كان الكتاب مهمًا لأسباب لا تُحصى، فهو محاولة لإضاءة جوانب خفية عن ممثل موهوب ترك تراثًا نُهب وبيع وتفرق وتمزقت حوائطه، كما ترك قصصًا تُروى عنه أغلبها عن مشكلاته أثناء التصوير، عن تقمصه ببراعة لكل الأدوار، عن قصص حُبٍّ غير مكتملة له وانتهت دراما قصته بموت ابنه الوحيد في شقته.
حسنًا فعلت هانم الشربيني في محاولتها الحفاظ على تراث أحمد زكي؛ لأن المكتبة العربية فقيرة جدًا بالنسبة للكتابة عنه رغم أنه ممثل كبير، ويشكل مدرسة خاصة في السينما المصرية.
تأخذك المؤلفة إلى عالم من الصعب الخروج منه بسهولة، عالم مليء بالشجن والدهشة والنجاح.. عالم خاص جدًّا.. هنا فقط أحمد زكي بحكاياته الإنسانية والفنية.. هنا سيحدِّثك عن تاريخه.. نجاحه.. إخفاقاته.. مع المزيد من الملامح الشخصية لنشأته وعلاقاته الشخصية.. هنا قد يخلع عباءة الفنان، ويرتدي زيًّا آخر لم تره من قبل.. وهنا فقط سوف تتلبس حكايته كما كان يتلبس شخصياته.. سوف تتوحد مع حكاية تأسر قلبك وتخلب عقلك.. فاحذر لأنك على أبواب “النمر الأسود”.
يحمل الكتاب قصصًا إنسانية عن عالم أحمد زكي، ويكشف عن علاقة الممثل الكبير بماجدة الرومي والرسائل المتبادلة بينهما، خاصة فيما يتعلق بمشروع فيلمهما الذي لم يتحقق “قصة حُب”، وكان مقررًا أن ينتجه الكاتب الصحفي ومقدم البرامج التليفزيونية عماد الدين أديب. ويتضمن كتاب هانم الشربيني قصصًا حقيقية بالوثائق عن علاقة أحمد زكي بالممثلة هالة فؤاد، أم ابنه الوحيد هيثم، بالإضافة إلى قصص إنسانية أخرى في حياة الممثل الأسمر وخلال مشواره الفني.
يضم الكتاب التفاصيل الكاملة المتعلقة بعلاقة أحمد زكي بالأديب الكبير نجيب محفوظ وكيف كان الأول معجبًا بشخصية محفوظ خاصة بعد نيله جائزة نوبل للأدب، وكيف سعى لتقديم شخصيته عبر شاشة السينما وكانت تجمع بينهما الكثير من الجلسات، إلا أن نجيب محفوظ رفض تجسيد شخصيته، وأكد أن شخصيته لا تصلح للسينما. وتروي المؤلفة أن نجيب محفوظ كان يصف أحمد زكي بالحالم الذي يكمل حديثه من كثرة شغفه بتجسيد الشخصيات.
الأكيد أن الكتاب يبوح بأسرار أحمد زكي ويكشف كواليس تقمصه لرؤساء مصر، وكيف انحاز لتجسيدهم وكيف تشكلت علاقته بالنقد، وكيف صار أكبر ناقد لنفسه.
الشاهد أن أحمد زكي عاش كل تحولات الممثل، فشرعية نجوميته مردها إلى كونه ممثلًا في المقام الأول، فقد امتاز بتنوع إمكاناته وأدواته الأسلوبية والتعبيرية التي تصل به -أحيانًا-إلى حد الثراء الفاحش، إذا جاز التعبير، والممثل الذي ينتمي إلى تلك النخبة متبوع في أدائه إلى موهبته وجسارته في التمرد، وخروجه المستمر عما هو تقليدي ومعتاد. لقد اكتشف مخرجو الثمانينيات منذ فيلم “عيون لا تنام” (إخراج رأفت الميهي، 1981) أن أحمد زكي هو الكاذب البارع الذي نصدقه ونحتفي به، رغم العلم يقينًا أن كل ما فعله وجاء به من أقوال وأفعال ما هو إلا محاكاة حقيقية لشخصية غير حقيقية، أو ادعاء حقيقي لعالم غير حقيقي (ص 8).
أكد أحمد زكي في أفلامه دومًا انتماءه إلى ذاكرة المدينة والحي والشارع في مصر، إنه قطعة من أرواحنا، من غضبنا، من ضحكنا، من أحزاننا جميعًا.
ولعله من الضروري الإشارة إلى فيلمين قدّمهما أحمد زكي من إخراج محمد خان، أحدثا تغيّرًا جذريًا في الميراث البصري والتخيلي للسينما المصرية؛ حيث انتقل بكاميراته والممثلين من البلاتوه إلى المدينة مقتحمًا شوارعها وحواريها وأزقتها كاشفًا عما يدور خلف الأبواب المغلقة وما يقال في مجتمع الهامش.
لقد أطلعنا محمد خان على مجتمع المدينة، سواء الإسكندرية في “موعد على العشاء” (1983)، أو القاهرة في “طائر على الطريق”، وقد تبيّن من حال واقعهما والعشوائية التي تُدار وحال البشر فيهما أنهما ليسا أفضل حالًا من غيرهما مما يطلق عليها مدن الأقاليم، وأن اضطرابهما واضطراب حالهما ليس ببعيد عما يقع خارج نطاق امتدادهما الجغرافي.
وكان فيلم “التخشيبة” (1984) هو بداية التعاون الفني بين أحمد زكي والمخرج عاطف الطيب، وهو التعاون الذي أثمر عن أفلام أخرى رائعة مثل: “الحُب فوق هضبة الهرم”، و”ضد الحكومة”، و”الهروب”، و”البريء”.
ولعل “الحب فوق هضبة الهرم” و”البريء” اللذين عُرضا في عامٍ واحد (1989)، وكلاهما من إخراج عاطف الطيب، من أكثر أعمال أحمد زكي الفنية ارتباطًا بالبحث عن العدل والشرعية ورفض الظلم، فقد تحوّل المجند المهمش في “البريء” إلى دور المتمرد الذي اقتص من الذي خدعوه وقالوا له إن العدل يكمن في وجهة نظرهم عن مفهوم الوطن وحمايته.
عبَّر أحمد زكي عن تحولات السلطة، وكيف يقود التجبر وأوهام التعلق بالسلطة والإيمان المطلق بها عبر شخصيتين؛ شخصية “منتصر” في فيلم “الهروب” (إخراج عاطف الطيب، 1991)، وشخصية الضابط رجل أمن الدولة في فيلم “زوجة رجل مهم” (إخراج محمد خان، 1988)؛ حيث سلَّط الضوء على السلطة في ممارساتها المتسارعة نحو التسلط والاستبداد إزاء الفرد في سعيه المشروع للنجاة من ملاحقتها له.
من هذا المنطلق، بوسعنا القول إن شخوص أحمد زكي وأبطاله حاولوا البحث عن الحقوق الشرعية لأي إنسان سواء أكان رجلًا أم امرأة، كما سعت أعماله إلى أن تدفع عنه الإهانة والمهانة.
في “أحلام هند وكاميليا” (إخراج محمد خان، 1988) جسّد أحمد زكي نموذج الإنسان المهمش المجني عليه و سلَّط -مع محمد خان وفريق العمل- الضوء على عالمٍ يفتقر إلى العدل من وجهة نظر امرأتين (نجلاء فتحي وعايدة رياض)، وكلتاهما تنتميان إلى إحدى شرائح المجتمع المسكوت عنهما.
انتقل أحمد زكي ليجسِّد اثنين من زعماء مصر، كلٌ منهما عكس الآخر، جمال عبد الناصر وأنور السادات. الطريف أن الموالين لعبد الناصر رأوا فيه تجسيدًا حقيقيًا للزعيم، في حين رأى فيه الموالون للسادات تجسيدًا لشخصية زعيم اتخذ قرار العبور في حرب 1973 وحقق نصر أكتوبر المجيد.
وتقول هانم الشربيني إن أحمد زكي توفي قبل إكمال تصوير فيلم “حليم” (إخراج شريف عرفة، 2006)، ومع رحيله وجهت اتهامات حادة إلى عماد الدين أديب من أصدقاء مقربين لأحمد زكي على رأسهم عادل حمودة ورغدة، بأن عماد استغل مرض أحمد زكي في تحقيق مكاسب مادية بتنفيذه لفيلم “حليم” على الرغم من معرفته أن حالة أحمد زكي الصحية خطيرة جدًا، وأن التصوير والعمل أيضًا يعجلان بنهايته، وتعجّب الجميع كيف يُقدِم عماد على هذه المغامرة؟ (ص 13).
وتحكي المؤلفة أن رحيل أحمد زكي كان مأزقًا على المستوى الفني لفيلم “حليم”، فكانت فيه مشاهد متبقية ومهمة لم تُصوّر، منها مشاهد المغرب، حيث كان مقررًا سفر أحمد زكي إليه لتصوير مشاهد تُظهِر علاقة العندليب الأسمر بالعاهل المغربي الملك الحسن الثاني الذي قدّم عبد الحليم أغنية عنه، وجمعته به مواقف كثيرة، ومنها أيضًا مشاهد مع شخصيات كان لها تأثيرها في حياة حليم، مثل: سعاد حسني، وصلاح جاهين، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، وعبد الرحمن الأبنودي.
عمليًا هذه المشاهد لا يمكن الاستغناء عنها، وهو ما مثّل ورطة للفيلم ولمخرجه شريف عرفة -حينذاك- وكاتب السيناريو محفوظ عبد الرحمن، اللذين عقدا عددًا من الجلسات لبحث المخرّج من هذه الورطة، وتوصلا في النهاية إلى عدد من البدائل؛ أن تُعوض المشاهد الضرورية ضمن مشاهد الصبا والشباب من حياة عبد الحليم التي سيقدّمها ممثل آخر (استقر الدور في النهاية عند هيثم نجل أحمد زكي)، أو الاستعانة بدوبلير قريب الشبه من أحمد زكي يصور من زوايا معينة بحيث تستكمل المشاهد الضرورية مع تركيب الصوت بعد ذلك عن طريق الكمبيوتر لمضاهاة بصمة صوت أحمد زكي.
كتاب هانم الشربيني ممتع وزاخر بالتفاصيل الجديدة عن النجم المتفرد الذي نفتقده كثيرًا.