هيمنة النفط الأمريكية تعتمد على ركن هادئ في نيو مكسيكو
على بعد نحو 100 ميل شرق روزويل، المشهورة بقصص الأجسام الطائرة المجهولة، يقع ركن يكسوه التراب بولاية نيو مكسيكو، يضم عددا أكبر من الماشية مقارنة بتعداد السكان، ولكنه يدعم هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النفط العالمي بهدوء.
بعد أن كانت تضخ كميات أقل من النفط الخام مقارنة بأكبر المقاطعات في ولاية تكساس المجاورة خلال السنوات التي سبقت وباء كورونا، شهدت مقاطعة “لي كاونتي” في نيو مكسيكو نمواً سريعاً في الإنتاج.
لقد توسع الإنتاج في هذه المنطقة بوتيرة أسرع من أي مكان آخر في الولايات المتحدة، ما جعل “لي كاونتي” أول مقاطعة تتجاوز إنتاج مليون برميل يومياً العام الماضي، وفقاً لتقرير شركة “إنفيروس” (Enverus) لبحوث الطاقة. وتتوقع شركة “نوفا لابس” لتحليلات قطاع الطاقة أن تصل مقاطعة “إيدي كاونتي” المجاورة إلى هذا المستوى القياسي من الإنتاج، البالغ مليون برميل يومياً، بحلول سبتمبر من العام المقبل.
وتشير البيانات إلى أن هاتين المقاطعتين في نيو مكسيكو شكلتا 17 % من إجمالي إنتاج النفط في الحقول البرية بالولايات المتحدة، باستثناء هاواي وألاسكا، العام الماضي. ومن المتوقع أن تتفوقا في إنتاج النفط على أكبر 5 مقاطعات تليها مجتمعة قبل نهاية العقد المقبل.
حوض برميان
“منذ وباء كورونا، كان حوض برميان هو المصدر الكبير الوحيد لنمو الإمدادات. وبما أن زيادة إنتاج حوض برميان تتركز في ولاية نيو مكسيكو، فهذا يعني تقنيا أن سوق النفط العالمية تعتمد على ما يحدث هناك”، وفق ما قاله غاريت غولدينغ، الخبير الاقتصادي في مجال الطاقة لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، خلال مؤتمر للقطاع عُقد في مدينة هوبس بولاية نيو مكسيكو في وقت سابق من هذا الصيف.
عندما أدى استخدام تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي، أو ما يعرف بالتصديع، قبل نحو 15 عاماً إلى تسهيل الوصول إلى مكامن النفط والغاز الضيقة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، تدفقت شركات الحفر إلى أكبر حوض نفطي في البلاد، وهو حوض برميان.
يُعد هذا الحوض، الذي يمتد عبر أجزاء من ولايتي تكساس ونيو مكسيكو، أفضل وسيلة للولايات المتحدة لمواجهة نفوذ منظمة البلدان المصدرة للبترول وحلفائها (أوبك+)، الذين يؤثرون في أسعار النفط العالمية من خلال تنسيق إنتاج الخام.
كانت أغلبية أنشطة الحفر في الولايات المتحدة تتركز في البداية حول منطقة ميدلاند داخل حوض برميان، حيث جذبت القوى العاملة المتمرسة في قطاع الطاقة، إلى جانب القوانين التنظيمية الميسرة في ولاية تكساس، وشركات التنقيب، وشركات النفط الكبرى على حد سواء.
وفي تكساس، عرض مُلاك المزارع عقود إيجار لمساحات شاسعة ومتصلة، وهو ما جعلها أكثر جاذبية بالمقارنة مع نيو مكسيكو، حيث تكون قطع الأراضي أصغر حجماً وغالباً ما تكون تحت سيطرة الولاية أو الحكومة الفيدرالية.
كما أن تكساس تتمتع بتفوق جيولوجي، إذ كان النفط في حوض ديلاوير، وهو حوض فرعي من برميان يمتد إلى نيو مكسيكو، محصوراً في تكوينات رسوبية يصعب الوصول إليها مقارنة بتلك الموجودة في تكساس. وأشارت شركات التشغيل إلى أن القواعد الصارمة لحفر الآبار وحماية البيئة في نيو مكسيكو زادت من تعقيد عملية الإنتاج.
وفي هذا السياق، قال أندرو باركر، نائب الرئيس الأول للعلوم الجيولوجية في شركة “ماتادور ريسورسز” (Matador Resources)، متحدثاً عن نيو مكسيكو: “لأن التكوينات كانت أعمق، وأكثر سمكاً، وذات ضغط أعلى، كان من الصعب التغلب على تلك التحديات قبل 15 إلى 20 سنة”.
ميزة تفضيلية
لكن ميزة تكساس التفضيلية تغيرت منذ ذلك الوقت. ورغم أن الولاية ما تزال غنية بالنفط، إلا أن عمليات استخراجه تجري بوتيرة أبطأ مع تقادم عمر أكبر حوض في نصف الكرة الغربي.
في المقابل، ما يزال في نيو مكسيكو الكثير من الأراضي غير المستغلة، حيث تم حفر نحو ثلث حوض ديلاوير فقط، وفقاً لشركة “نوفا لابس”. يقع جزء كبير من هذه الأراضي فوق طبقات متعددة من الصخور الغنية بالنفط الصخري، التي أطلقت عليها شركات التنقيب اسم “العوائد المكدسة”.
ويرى جوزيف فورن، الرئيس التنفيذي لشركة “ماتادور” أن “حوض ديلاوير أثبت أنه أفضل مكان للحفر، حيث يحتوي على 5 آلاف قدم من الخام المتراكم مع 25 طبقة منفصلة يمكن استهدافها. بينما تضم ميدلاند تكوينين أساسيين يمكن استهدافهما فعلياً مع نحو 6 طبقات مستهدفة”.
عالجت التكنولوجيا المحسنة التحديات المتعلقة باستخراج النفط في ولاية نيو مكسيكو. كما أن التطور في البنية التحتية، بما في ذلك خطوط الأنابيب ومحطات التجميع، مكّن من الوصول إلى حوض ديلاوير واستغلاله بسهولة أكثر.
على سبيل المثال، من المتوقع أن يدخل حيز الخدمة لاحقاً هذا العام حزام ناقل كهربائي بالكامل بطول 42 ميلاً، يعرف باسم “دون إكسبريس” (Dune Express)، والذي سينقل الرمال المستخدمة في عمليات الحفر بين كيرميت بولاية تكساس ونيو مكسيكو.
وفي هذا السياق، قال باركر متحدثاً عن الجانب التابع لنيو مكسيكو من حوض برميان: “كل الأمور التي كانت تشكل تحدياً في الماضي أصبحت الآن هي التي تجعل العمل هنا متميزاً. وهذه العوامل نفسها هي التي تجعلنا نفضل هذا الجانب من الحوض على الجانب الآخر”.
تحديات تكلفة حفر الآبار وحرق الغاز
رغم ذلك، فإن جانب نيو مكسيكو يواجه تحدياته الخاصة. لا يزال حفر الآبار في حوض ديلاوير أكثر تكلفة، حيث يبلغ متوسط تكلفة البئر الواحدة نحو 9.8 مليون دولار، مقارنةً بأكثر قليلاً من 8 ملايين دولار في منطقة ميدلاند، وفقا لبيانات “إنفيروس”.
هذا الفارق في التكلفة يجعل من الصعب على الشركات الصغيرة منافسة الشركات النفطية الكبرى التي تتمتع بتمويل أفضل. ومع ارتفاع التكاليف، شهدت الولاية دخول استثمارات جديدة من شركات الملكية الخاصة.
وقال لاري سكوت، عضو مجلس النواب عن ولاية نيو مكسيكو ومهندس النفط والغاز المتمرس المنتمي للحزب الجمهوري: “بلوغ تكلفة المشروع الواحد 10 ملايين دولار أو 11 مليون دولار عطل الشركات المنتجة الصغيرة والمتوسطة. يجابه الأشخاص أمثالي ممن كانوا يديرون أو لا يزالون يديرون 50 أو 60 أو 200 بئر محفورة عمودياً صعوبة في المنافسة”.
يتعين على شركات التشغيل في نيو مكسيكو أيضا التعامل مع بيئة تنظيمية أكثر صرامة مقارنةً بما اعتادوا عليه في ولاية تكساس. فعلى سبيل المثال، تم حظر حرق الغاز الناتج عن عملية الحفر نهائياً في نيو مكسيكو، ما يعني أن شركات التنقيب تحتاج إلى إيجاد طرق أخرى للتخلص من الغاز الطبيعي. إضافة إلى ذلك، تفرض الولاية قواعد صارمة للتخلص من المياه، وهو عنصر رئيس في إنتاج النفط، وقد ارتبط بحدوث هزات أرضية. لذا، يدرس المشرعون وشركات التشغيل جهوداً لمعالجة مزيد من مياه حقول النفط لإعادة استخدامها.
تفرض اللوائح وإنتاج النفط توازناً دقيقاً في نيو مكسيكو، وهي ولاية يهيمن على إدارتها الديمقراطيون بصورة كبيرة، بوقت يظل فيه التغير المناخي قضية سياسية كبيرة على المستوى الوطني للحزب. ورغم ذلك، لم تقدم نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس كثير من التفاصيل حول موقفها من النفط والغاز بصفتها مرشحة الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة. خلال حملتها الانتخابية القصيرة في 2019، دعت هاريس إلى حظر تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي، لكنها أشارت منذ ذلك الحين إلى أنها غيّرت موقفها.
تدفق الاستثمارات
تشير مارييل ناناسي، المديرة التنفيذية لمنظمة “نيو إنرجي إيكونومي” (New Energy Economy)، وهي مجموعة مناهضة للوقود الأحفوري في نيو مكسيكو، إلى أنه إذا كانت أي ولاية مهمة لمجال الطاقة ستدرس وقف الحفر لأسباب بيئية، فستكون نيو مكسيكو “لأن قيم حب الأرض قوية للغاية هنا”.
وترى ناناسي أن أكبر تحدٍ يواجه ذلك يتمثل في المليارات من الدولارات التي يجلبها القطاع سنوياً. وقالت: “كل ما نحتاج لفعله بصورة جوهرية هو معرفة سبل الحصول على 13 مليار دولار. وإذا تمكنا من معرفة ذلك، وتوافر بعض الأفكار ذات الصلة، فسيمكننا ترك الوقود الأحفوري في باطن الأرض”.
تقدّر ميسي كورييه، رئيسة ومديرة تنفيذية لرابطة النفط والغاز في نيو مكسيكو، أن مساهمة القطاع في خزينة الولاية كل سنة أعلى من ذلك بكثير، مقتربة من 14 مليار دولار، أو 40 % تقريباً من ميزانيتها.
وتقول كورييه إنها تمضي وقتا كثيرا في محاولة تثقيف سكان نيو مكسيكو حول فوائد القطاع. على سبيل المثال، نظراً لإيرادات إنتاج النفط والغاز التي تدعم الإيرادات العامة، باتت نيو مكسيكو أول ولاية في البلاد تقدم رعاية مجانية للأطفال وتعليماً جامعياً مجانياً، رغم كونها واحدة من أفقر الولايات الأميركية.
واختتمت بالقول: “إذا توقف النفط والغاز في نيو مكسيكو، فسنصبح خلال عقد دولة من دول العالم الثالث”.