في ظل تحولات متسارعة في النظام العالمي، تبرز القمة الثلاثية بين دول مجلس التعاون الخليجي و”آسيان” والصين  بمثابة خطوة استراتيجية لإعادة تشكيل خرائط النفوذ الاقتصادي والتجاري.

تمثل هذه القمة وهي الأولى من نوعها  فرصة لبناء تكتل إقليمي ضخم يجمع بين الموارد والطاقة (من الخليج)، والقاعدة التصنيعية (في الصين)، والاستهلاك الواسع (في آسيان)، في وقت تواجه فيه بكين ضغوطاً متصاعدة من واشنطن. في حين تسعى الأطراف الثلاثة لتعزيز التكامل الاقتصادي، وتطوير البنية التحتية وسلاسل الإمداد، فإن التحديات الجيوسياسية والتجارية تبقى حاضرة.

1- ما أهمية القمة الافتتاحية لدول الخليج و”آسيان” والصين؟
 تتحرك الصين لتوسيع نفوذها في مناطق تعد حيوية للطاقة وسلاسل الإمداد، في حين تسعى واشنطن لعزل الاقتصاد الصيني عبر الرسوم وتقييد الحصول على التكنولوجيا.

وأمام أول قمة من نوعها تضم دول الخليج العربية و”آسيان” والصين التي انعقدت يوم الثلاثاء في العاصمة الماليزية، كوالالمبور، دعا رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ الأطراف إلى تعزيز التعاون الإقليمي وإلى دعم بعضهم البعض في مواجهة التحديات الجديدة في مسار التنمية، وتشجيع نماذج جديدة للتعاون الصناعي والاقتصادي على الصعيد الدولي. وقال لي خلال القمة المشتركة :”علينا توسيع الانفتاح الإقليمي بشكل حازم وتطوير سوق كبيرة. ينبغي إدارة الخلافات بروح التفاهم المتبادل.

تأتي دعوة لي بعد جولة قام الرئيس الأميركي دونالد ترمب منتصف الشهر الجاري إلى عدة دول خليجية في زيارة حملت أبعاداً سياسية واقتصادية مهمة لكافة الأطراف. ترمب لم يسافر وحيداً، بل رافقه وفد ضخم من رجال الأعمال وعمالقة “وول ستريت”، وهو ما يُفسر حجم الصفقات والاتفاقات بين الولايات المتحدة من جهة، وكلّ من السعودية وقطر والإمارات من جهة أخرى.

وتضم “آسيان” في عضويتها بروناي، كمبوديا، إندونيسيا، لاوس، ماليزيا، ميانمار، الفلبين، سنغافورة، تايلاند، وفيتنام..

تُمثل هذه القمة الافتتاحية فرصة جديدة للصين للتقرب من دول على خط المنتصف بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم، حيث جاءت زيارة لي إلى المنطقة بعد جولة قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ الشهر الماضي، دعا خلالها إلى لم شمل “العائلة الآسيوية” في إشارة ضمنية لمواجهة محاولات واشنطن لعزل الصين، وفق “بلومبرغ”.  وأضاف لي: “رغم أن دولنا تمر بمراحل تنموية مختلفة، لا ينبغي أن تشكل هذه الفوارق عائقاً أمام التعاون، بل يجب تحويلها إلى قوة تكاملية يمكن استغلالها”.

 2- ما الدوافع الاستراتيجية للصين وراء اقتراح السوق المشتركة؟
تسعى الصين من خلال هذه القمة إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج العربية و”آسيان”، في ظل تصاعد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة. وتعتبر الصين أن التعاون مع هذه الكتل الإقليمية يعزز من قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، ويدعم استراتيجيتها في تنويع الشراكات التجارية والاستثمارية.

ومن شأن التقاء كبار مصدري الطاقة في دول مجلس التعاون مع القاعدة الاستهلاكية الواسعة لآسيان والسوق الضخمة للصين التي تضم أكثر من 1.4 مليار نسمة يعد بمنافع كبيرة لجميع الأطراف. فمعا، تمتلك هذه الأطراف من الموارد داخل حدودها ما يكفي لدعم التجارة والصمود في مواجهة أي قيود أو اضطرابات محتملة

وتُعد” آسيان” خامس أكبر اقتصاد في العالم، بإجمالي ناتج محلي يبلغ 3.8 تريليون دولار، بينما تظل الصين شريكها التجاري الأكبر، حيث يصل حجم التبادل التجاري الثنائي إلى 696.7 مليار دولار.

3- هل اتخذت الصين خطوات أخرى في هذا الصدد؟
أعرب لي عن استعداد الصين لتعميق المواءمة الاستراتيجية مع مجلس التعاون و”آسيان” على أساس الاحترام المتبادل والمعاملة بالمثل، فضلا عن استعدادها لتعزيز التنسيق بشأن سياسات الاقتصاد الكلي، وفق وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا).

قال لي إن الصين مستعدة للعمل مع مجلس التعاون و” آسيان” لتنفيذ مبادرة الحضارة العالمية بشكل مشترك. ودعا لي، خلال كلمته أمام القمة الثلاثية، الأطراف الثلاثة إلى “إدارة الخلافات بشكل فعال من خلال التفاهم المتبادل، واستكشاف مسار جديد للتقدم الشامل لمختلف الحضارات”.

كما أعرب لي عن تطلعه للانتهاء من المحادثات بشأن اتفاقية منطقة التجارة الحرة بين مختلف الأطراف ومجلس التعاون الخليجي في أقرب وقت.

4- ماذا عن المصالح المشتركة بين الأطراف الثلاثة؟
تتمثل المصالح المشتركة بين مجلس التعاون الخليجي و”آسيان” والصين في تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، وتطوير البنية التحتية، وتحقيق الأمن الغذائي والطاقة. كما يسعى الأطراف إلى تعزيز الاستثمارات المشتركة في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجددة، وتطوير سلاسل الإمداد الإقليمية.

 يمثل تعداد سكان التكتلات الثلاثة أكثر من 2.14 مليار نسمة، أي نحو 27% من سكان العالم، ضمن سوق تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الهادئ، وتحمل إمكانات استهلاكية وإنتاجية هائلة لا يمكن تجاهلها في معادلات الاقتصاد العالمي، وفق بيانات مجلس التعاون.

وعلى الصعيد الاقتصادي، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون، والآسيان، والصين أكثر من 24 تريليون دولار أي ما يعادل أكثر من 22%  من الناتج العالمي، مع توقعات بنمو سنوي يتراوح بين نسبة 4 إلى 6% حتى عام 2030، مدفوعاً بالتحول الرقمي، والطاقة النظيفة، وسلاسل التوريد الذكية، وعلى مستوى التبادل التجاري.

وبلغ حجم التجارة بين دول مجلس التعاون وكل من الصين والآسيان معاً نحو  347 مليار دولار في عام 2023، وهو ما يشكل أكثر من ثلث تجارة مجلس التعاون مع دول العالم قاطبة، مع مؤشرات واضحة على أن هذا الرقم قد يتجاوز 500 مليار دولار بحلول عام 2030، في ظل تصاعد الشراكات القطاعية وتحرير الأسواق.

“وإن هذه الأرقام، في مضمونها، هي دعوة واضحة لتفعيل الشراكة، وتعميق الثقة، وبناء نموذج تنموي يقوم على تشارك الفرص واستدامة العوائد”، حسب جاسم محمد البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في بيان صحفي.

وقال البديوي إن “التجربة لدينا قد أثبتت القواسم المشتركة ما يفوق التباينات، وأننا قادرون، من خلال هذه الشراكة الثلاثية، على تأسيس علاقات تقوم على الاحترام المتبادل، والتكافؤ والسيادة والمنافع المشتركة وتُسهم في إرساء دعائم الاستقرار الإقليمي والدولي ومواجهة التحديات العالمية”.

تعرضت دول جنوب شرق آسيا لرسوم جمركية أميركية حادة في وقت سابق من هذا العام، مع اتهام واشنطن لها بالمساعدة في إعادة تصدير بضائع صينية رخيصة إلى السوق الأميركية. كما تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للحد من استخدام شركات بناء مراكز البيانات في هذه الدول لمعدات الذكاء الاصطناعي الصينية.

5- هل هناك تحديات أمام هذه الخطوة؟
تواجه هذه المبادرة تحديات متعددة، منها التوترات الجيوسياسية في المنطقة، والاختلافات في السياسات الاقتصادية بين الدول المشاركة، والتحديات المتعلقة بتنسيق السياسات التجارية والاستثمارية. كما أن هناك مخاوف من تأثير هذه المبادرة على العلاقات مع القوى الاقتصادية الأخرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

كما تمثل الدعوة الصينية لإنشاء “سوق كبيرة” مشتركة مع دول الخليج وآسيان خطوة استراتيجية لتعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي، ومواجهة التحديات الاقتصادية العالمية. وإذا لم تتدخل أطراف خارجية، فإن هذا “المثلث الذهبي” الناشئ الذي يجمع بين الموارد والتصنيع والمستهلكين مرشح لدفع عجلة الاقتصاد العالمي قدما. كما أنه من الممكن أن يساهم في تسريع نشر التقنيات المتقدمة التي تقودها الصين- ولا سيما في مجال المركبات العاملة بالطاقة المتجددة وأدوات الذكاء الاصطناعي مثل “ديب سيك” والذي طُور بتكاليف أقل بكثير من نظرائه في الغرب، وفق جوليا روكنيفارد أستاذة محاضرة أولى في كلية القانون والحوكمة بجامعة تايلور في مقال نشرته “شينخوا”.

وتُعد رابطة آسيان حاليًا خامس أكبر اقتصاد في العالم، بإجمالي ناتج محلي يبلغ 3.8 تريليون دولار، بينما تظل الصين شريكها التجاري الأكبر، حيث يصل حجم التبادل التجاري الثنائي إلى 696.7 مليار دولار.

6- كيف تطورت العلاقات بين دول الخليج و”الآسيان”؟
استضافت كوالالمبور القمة الثانية بين مجلس التعاون و”آسيان ” وهو ما يمثل امتداداً لمسيرة طموحة بدأت قبل أكثر من 15 عاماً بعد قمة المنامة في مملكة البحرين، خلال 2009، والتي شهدت توقيع مذكرة التفاهم بين الجانبين.  وشهدت العلاقات تطوراً نوعياً خلال قمة الرياض التاريخية في 2023، التي أقرت إطار التعاون الاستراتيجي للفترة 2024-2028، الذي يشمل مجالات السياسة والاقتصاد والطاقة والأمن الغذائي، والتكنولوجيا والرقمنة والتعليم والثقافة وغيرها من الأولويات المشتركة.

وبلغ حجم التبادل التجاري في السلع بين الجانبين نحو 122 مليار دولار في عام 2023، أي ما يشكل أكثر من 8 % من إجمالي التبادل التجاري في السلع لمجلس التعاون.

سجلت قيمة صادرات مجلس التعاون إلى دول الآسيان نحو 75.7 مليار دولار مقابل واردات بنحو 46.4 مليار دولار ، وبذلك بلغ فائض الميزان التجاري في السلع نحو 29 مليار دولار، مما يجعل مجلس التعاون الشريك السادس لرابطة “آسيان”.

وتشكل صادرات الوقود والزيوت المعدنية 77% من إجمالي الصادرات السلعية من المجلس إلى دول الرابطة، وفق بيانات مجلس التعاون لدول الخليج العربية على موقعه الإلكتروني..

وتشير التقديرات إلى أن إجمالي التبادل بين الجانبين مرشح لبلوغ 682 مليار دولار بحلول عام 2030، إن استمرت معدلات النمو عند 7.1% سنوياً.  كما ارتفع الاستثمار الآسيوي المباشر في الخليج من 4 مليارات دولار في 2018 إلى 26 مليار دولار في 2023.  

8- ما مستقبل التعاون بين القوتين؟
تقترح الأمانة العامة لمجلس التعاون عقد مؤتمر بين الجانبين خلال عام 2026 حول التعاون في الاقتصاد الأزرق بهدف السعي نحو تحقيق عدة أهداف تشمل النمو الاقتصادي والتنمية والأمن الغذائي وتوفير فرص العمل ومكافحة التغير المناخي والتكيف معه والتنوع البيولوجي والخدمات البيئية والقيمة الجيوسياسية والإستراتيجية، وأخيراً الابتكار والاقتصاد المعرفي.

وقال البديوي أمام  القمة الثانية بين الجانبين إن اقتصاديات دول مجلس التعاون ودول آسيان “لديها كافة العناصر لنجاح هذا التعاون المشترك والمأمول في الاقتصاد الأزرق”.

شاركها.