رحل في 5 من سبتمبر الجاري يلقبه الإعلام الإيطالي بـ”الملك جورجيو”، والذي اعتبره وزير الثقافة إليساندو جولي “أحد رموز الثقافة الإيطالية”، بعدما عرف كيف يحول الأناقة إلى لغة عالمية؟ واستطاع بفكرة “الأناقة البسيطة” بناء إمبراطورية ضخمة في عالم الموضة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات.
غادرنا فيلسوف الأناقة جورجيو أرماني (1934-2025) الذي نجى في طفولته من انفجار لغم من بقايا الحرب العالمية الثانية في الشارع قرب منزله، ليعيد كتابة قواعد عالم الموضة والأزياء خلال مسيرته التي بدأت متأخرة، بعد بلوغه سن 40 عاما، مقارنة بما حققه خلالها.
شرع في دراسة الطب بجامعة ميلانو الحكومية عام 1957، ثم غادرها للالتحاق بالخدمة العسكرية التي تركتها أيضا للعمل مصورا فوتوغرافيا قبل الاشتغال في تصميم واجهات العرض في أحد المتاجر الكبرى بميلانو.
وجد الرجل نفسه في عالم التصميم، من واجهات المحال إلى عالم الأزياء والملابس، الذي اقترحه فجأة كما اعترف بذلك في حوار له عام 2015 “بدأت في هذا المجال تقريبا بالمصادفة، وشيئا فشيئا جذبني إليه، ثم استولى علي استيلاء كاملا”.
استطاع أرماني بمساعدة شريكه المعماري سيرجيو غاليوني تأسيس شركة خاصة باسم “Giorgio Armani SPA” بمدينة ميلانو، بتمويل قدره 10 آلاف دولار من بيع سيارته فولكسفاجن، معلنا ميلاد إمبراطورية أزياء نجحت في نحث مسارها الخاص في عالم الأناقة والموضة.
اختار أرماني الابتعاد عن تعقيدات المسيطرة على موضة السبعينات، مفضلا صناعة اسمه بالاعتماد على ثلاثية بسيطة: سترة غير مبطنة وسروال مريح ولوحة ألوان حضرية ومحايدة، التي تحولت لاحقا إلى توقيع رافقه اسمه في عالم الأناقة لـ5 عقود.
خلافا لكثرين لم يلج أرماني مدرسة أو معهدا للأزياء، بل تعلم أسرار المهنة عمليا بالإنصات لحوار الأقمشة مع المقص والإبرة، وداخل صالات العرض، فالأناقة عنده احترام للشكل والجسد والزمن وليست تكديسا لرموز الثراء.
نجح أرماني في بلوغ العالمية في وقت قياسي لم يتعد 5 سنوات، وكان فيلم “American Gigolo” (1980) طريقه لذلك، بتوليه مهمة تصميم أزياء الممثل ريتشارد جير، ما فتح أبواب هوليوود أمامه، حيث صمم أزياء أكثر من 200 فيلم.
اعترف لصحيفة التلجراف البريطانية عام 2013 بنجاحه في إضفاء لمسة خاصة في عالم السينما: “كنت أحد أول المصممين الذين زينوا النجوم على الشاشة وخارجها؛ حيث لم يكن لديهم دائما أسلوب معين أو ذوق يجعلهم يعرفون ما يجب ارتداؤه في المناسبات… لقد ساعدتهم على الشعور بثقة واسترخاء أكبر”.
تمكن الرجل من فتح الطريق أمام ميلانو كي تنافس باريس عاصمة الأزياء والموضة، بعدما تمدد إمبراطوريته عموديا بالإبداع في شتى أصناف الملابس: الراقية (Giorgio Armani Privé) والفاخرة (Emporio Armani) والشبابية (Armani Exchange) والرياضية (EA7) وحتى ملابس الأطفال… وأفقيا نحو مجالات أخرى مثل: العطور والأثاث ومواد التجميل والإكسسوارات والشوكولاتة… وانتهاء بالفنادق الفاخرة.
حرص على وجود علامته التجارية في الأسواق الكبرى، فاتجه مبكر نحو آسيا بالحضور في اليابان والهند والصين، وكان أول متجر له في بكين عام 1998. وفقا لبيانات 2023 تشغل إمبراطوريته أزيد من 9000 موظف حول العالم، وتدير 7 مراكز صناعية وأكثر من 600 متجر عالمي.
على غرار العباقرة عاكس الرجل القاعدة، فالمخاوف لم تراوده في البدايات الأولى وإنما بعد بلوغ القمة، حيث شعر بعبء النجاح. فقد صرح قائلا: “لم أعد أستطيع المخاطرة كما كنت أفعل من قبل، ولم أعد أستطيع تحمل عدم البيع. لم أستطيع حتى تحمل انخفاض المبيعات. أصبح تصاميمي مسؤولية تجارية”.
لذلك حافظ على استقلالية الشركة حتى وفاته، ورفض كل عروض التمويل التي قدمت له، بل ورفض حتى إدراج أسهمها في البورصة. كأنه بذلك يعارض إخضاع ما بناه بعشق لسلطة رأس المال، وانتهى به الأمر بعائدات سنوية بلغت 2,7 مليار دولار للمجموعة، أما ثروته فتجاوزت 12 مليار دولار.
يبثث أرماني في سيرته أن الريادة غير مقترنة بالعمر إطلاقا؛ فالرجل انطلق متأخرا وحافظ على روحه المتوقدة حتى آخر أيامه. وأن الميدان والممارسة أفضل معلم للمرء، مادام صاحب تصور ورؤية، فطالما ردد: “أنا أصمم لناس حقيقيين. لا معنى لملابس لا تناسب الواقع”.