على الرغم من بعض التحديات السياسية والتنظيمية في الولايات المتحدة وأوروبا، شهدت الاستثمارات في الأصول الصديقة للبيئة نمواً ملحوظاً هذا العام، مدفوعةً بشكل كبير بالطلب المتزايد على البنية التحتية للطاقة الناتج عن التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد بلغت إصدارات السندات الخضراء والقروض عالمياً مستوى قياسياً بلغ 947 مليار دولار حتى الآن في عام 2024، وفقاً لبيانات جمعتها بلومبرغ إنتليجنس. ويأتي هذا الارتفاع بالتزامن مع توقعات بتحقيق قطاع الطاقة المتجددة أول مكاسب سنوية له منذ عام 2020، متجاوزاً أداء مؤشر “إس آند بي 500” بشكل كبير.
هذا التوجه الاستثماري الإيجابي يظهر في ظل بيئة شهدت فيها بعض الدول تراجعاً عن سياسات الطاقة النظيفة، مثل إلغاء بعض الإعانات والتشريعات في الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وتعديل بعض القوانين البيئية الصارمة في أوروبا بسبب مخاوف تتعلق بالنمو الاقتصادي والقدرة التنافسية. ومع ذلك، فإن الحاجة المتزايدة للكهرباء، والتي من المتوقع أن ترتفع بنسبة 4% عالمياً، بسبب انتشار الذكاء الاصطناعي واحتياجات التبريد، عززت الثقة في قطاع الطاقة المستدامة.
الاستثمارات الخضراء: جزء أساسي من البنية التحتية
ترى ميليسا تشيوك، المديرة المساعدة لأبحاث الاستثمار في معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات لدى “سستينابل فيتش”، أن الاستثمارات الخضراء لم تعد تعتبر مجرد رهانات متخصصة، بل أصبحت جزءاً أساسياً من البنية التحتية والقطاعات الصناعية المختلفة. وتضيف أن رؤوس الأموال تتجه بشكل متزايد نحو القطاعات التي تتمتع برؤية واضحة للإيرادات، ودعم سياسي، وطلب هيكلي مستدام، مثل تحديث شبكات الكهرباء والطاقة المتجددة.
هذا التحول يعكس وعياً متزايداً بأهمية الاستدامة في تحقيق النمو الاقتصادي على المدى الطويل، فضلاً عن الضغوط المتزايدة من المستثمرين والمستهلكين على الشركات لتبني ممارسات صديقة للبيئة.
آسيا تقود إصدار السندات الخضراء
تتصدر منطقة آسيا والمحيط الهادئ إصدارات السندات الخضراء، حيث جمعت الشركات والجهات الحكومية المرتبطة سندات بقيمة 261 مليار دولار، بزيادة تقارب 20% عن العام الماضي. ويعود الفضل في ذلك إلى الدعم القوي الذي تقدمه الصين والهند لخطط التوسع في مجال الطاقة المتجددة. وقد سجلت الصين إصداراً قياسياً للسندات الخضراء بلغ 138 مليار دولار، بقيادة أكبر مؤسسات الإقراض لديها، كما أطلقت سندات سيادية في لندن في وقت سابق من هذا العام.
وتظهر ما يسمى بـ “العلاوة الخضراء” – أي انخفاض تكاليف الاقتراض على السندات الخضراء – بشكل واضح في آسيا، حيث حصل بعض المصدرين على خصومات تجاوزت 14 نقطة أساس مقابل استخدام التصنيف الأخضر في نوفمبر، وفقاً لـ “بلومبرغ إن إي إف”. وتلجأ الشركات بشكل متزايد إلى السندات الخضراء لتمويل مشاريعها في مجال الطاقة المتجددة ووسائل النقل منخفضة الانبعاثات الكربونية.
أداء قوي لشركات الطاقة المتجددة
شهدت أسهم شركات الطاقة المتجددة أداءً قوياً هذا العام، حيث ارتفعت مؤشرات الطاقة النظيفة الصادرة عن “إس آند بي داو جونز” و”وايلدرشيرز” بنسبة 45% و60% على التوالي، على الرغم من بقائها دون ذروتها المسجلة في عام 2021. وتصدرت أسهم الطاقة الشمسية وتخزين البطاريات في الولايات المتحدة، مثل “سولار إيدج تكنولوجيز”، قائمة الشركات الأفضل أداءً، بينما شهدت شركات تصنيع توربينات الرياح في الصين وألمانيا مكاسب كبيرة.
كما برزت الهند كوجهة رئيسية للاكتتابات العامة الأولية في قطاع الطاقة المتجددة، حيث جمعت 11 شركة مدرجة أكثر من مليار دولار، في حين تسعى ست شركات أخرى إلى جمع ما يتجاوز 3 مليارات دولار. وفي العام الماضي، جمعت 14 شركة عاملة في مجال الطاقة المتجددة حوالي 2.4 مليار دولار من خلال الاكتتابات العامة الأولية.
تراجع مبيعات سندات الاستدامة
على الرغم من النمو القوي في السندات الخضراء، فقد شهدت مبيعات السندات المستدامة تراجعاً ملحوظاً هذا العام، حيث انخفضت بنحو 50% لتصل إلى 165 مليار دولار، وذلك بسبب المخاوف المتعلقة بالغسل الأخضر. كما انخفضت إصدارات سندات التحول بأكثر من النصف لتسجل 10.9 مليارات دولار في القطاعات التي يصعب فيها خفض الانبعاثات.
ومع ذلك، يتوقع شوان شنغ أو يونغ، مدير محافظ عملاء الاستثمار المستدام لدى “روبيكو” في سنغافورة، أن هذه الاتجاهات قد تنعكس خلال العامين المقبلين، خاصةً مع التغييرات المرتقبة في قواعد الصناديق الأوروبية التي ستتيح لمديري الأصول تحديد معايير أكثر صرامة للاستثمار المستدام، مما يفتح المجال أمام استثمارات خفض الانبعاثات في القطاعات الأكثر تلويثاً.
بشكل عام، بلغ حجم الديون المستدامة عالمياً حوالي 1.6 تريليون دولار هذا العام، بانخفاض يزيد على 8% مقارنة بعام 2023، وفقاً لبيانات بلومبرغ إنتليجنس. وفي الولايات المتحدة، تم بيع أكثر من 500 مليار دولار من السندات الاجتماعية المرتبطة بـ “الجمعية الوطنية الحكومية لتمويل الرهن العقاري” (Ginnie Mae)، والتي تضمن أصل وفوائد الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري.
من المتوقع أن يستمر التركيز على الاستثمارات المستدامة في السنوات القادمة، مع تزايد الضغوط على الشركات والحكومات لتبني ممارسات صديقة للبيئة. ومع ذلك، فإن مستقبل هذا القطاع يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك التطورات السياسية والتنظيمية، والتقدم التكنولوجي في مجال الطاقة المتجددة، وقدرة المستثمرين على تقييم المخاطر المرتبطة بـ الاستثمارات الخضراء بشكل فعال. يجب مراقبة التطورات في السياسات البيئية العالمية، وخاصةً في الولايات المتحدة والصين وأوروبا، بالإضافة إلى التغيرات في أسعار الفائدة وتوفر التمويل، لتقييم المسار المستقبلي لهذا القطاع الحيوي.
