تشهد السواحل الفنزويلية واحدة من أخطر الأزمات في تاريخ المواجهة بين واشنطن وكاراكاس، بعدما تحولت ضربة أميركية استهدفت زورقاً مشتبهاً به إلى نزاع بحري متصاعد يهدد بجرّ المنطقة إلى مواجهة أوسع. الأزمة ليست منفصلة، بل هي امتداد لصراع طويل بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو، يمتزج فيه البعد الأمني المرتبط بتجارة المخدرات مع حسابات سياسية تسعى لتقويض النظام الفنزويلي.
ما قصة الخلاف المشتعل على سواحل فنزويلا؟
نفّذت الولايات المتحدة في سبتمبر الجاري ضربة جوية ضد زورق في جنوب البحر الكاريبي قالت إنه كان يُستخدم من قبل عصابة “ترين دي أراغوا” الفنزويلية لتهريب المخدرات. العملية أسفرت عن مقتل 11 شخصاً، ووصفتها واشنطن بأنها جزء من الحرب على المخدرات وتهدف إلى حماية الأمن الوطني الأميركي. لكن كاراكاس اعتبرت الضربة “إعداماً خارج القانون”، واعتبرها الرئيس نيكولاس مادورو محاولة لإضعاف سيادة بلاده، ما فتح الباب أمام مواجهة مباشرة بين الجانبين.
في أعقاب الضربة، عزّزت الولايات المتحدة وجودها العسكري في البحر الكاريبي عبر نشر مقاتلات “F-35” في بورتو ريكو وإرسال سفن حربية ووحدات من مشاة البحرية. زار وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيت، القوات الأمريكية في المنطقة وقال للبحارة على متن السفينة “يو إس إس أيو جيما” (USS Iwo Jima): “ما تقومون به الآن- ليس تدريبات. هذه عملية فعلية في العالم الواقعي، تُنفّذ باسم المصالح الوطنية الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، من أجل وضع حد لتسميم الشعب الأميركي”، حسبما نقلت “رويترز”.
من جانبها، ردّت فنزويلا بتعبئة ميليشياتها الشعبية وإعلان حالة “أقصى الجاهزية الوطنية”، ونفذت مقاتلاتها تحليقاً فوق مدمرة أميركية في خطوة وصفتها واشنطن بالاستفزازية.
كيف بدأ الصراع بين ترمب ومادورو؟
بدأ الصراع بين ترمب ونظيره الفنزويلي مادورو منذ ولايته الأولى في 2017، حين وضعت واشنطن كاراكاس في دائرة “الضغط الأقصى” عبر عقوبات مالية ونفطية، واتهمت النظام بالضلوع في شبكات تهريب مخدرات يقودها ما يُعرف بـ”كارتل الشمس”. وفي 2019، صعّد ترمب الموقف بدعمه العلني لزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيساً انتقالياً، وهو ما دفع مادورو لقطع العلاقات الدبلوماسية واعتبار الولايات المتحدة “راعية لانقلاب سياسي”، بحسب موقع “إل بيس” الكولومبي.
نيكولاس مادورو رئيس فنزويلا – المصدر: بلومبرغ
التوتر بلغ ذروته حين أعلنت وزارة الخارجية في عهد ترمب عام 2020 عن مكافأة قدرها 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على مادورو، متهمةً إياه بالتورط في “الإرهاب المرتبط بالمخدرات”، والآن تتهم واشنطن مادورو بقيادة “كارتلات مخدرات”، ورفعت مكافأة القبض عليه إلى 50 مليون دولار.هذه الخطوة، غير المسبوقة ضد رئيس دولة في السلطة، مثّلت انتقالاً من خلاف سياسي إلى استهداف شخصي، وأرسلت رسالة مباشرة بأن واشنطن لم تعد ترى مادورو مجرد خصم سياسي بل مجرماً مطلوباً.
ومع عودته إلى البيت الأبيض عام 2025، صعّد ترمب لهجته أكثر، إذ وصف مادورو بـ”الديكتاتور الفاسد الذي يسمّم الشعب الأميركي عبر الكوكايين”، متوعداً بـ”قطع شرايين التهريب” عبر نشر قوات أميركية في الكاريبي، واتهمت واشنطن مادورو بقيادة “كارتلات مخدرات”، ورفعت مكافأة القبض عليه إلى 50 مليون دولار.
خلص تقرير لـ”فاينانشال تايمز” بعنوان “هل مهمة ترمب في فنزويلا هي محاربة المخدرات أم الإطاحة برئيسها؟” إلى أن مهمة ترمب في فنزويلا لم تقتصر على مواجهة شبكات تهريب المخدرات كما تعلن واشنطن رسمياً، بل حملت في جوهرها بعداً سياسياً أعمق يستهدف تقويض نظام نيكولاس مادورو وربما الإطاحة به.
لماذا يعود الصراع الأمريكي-الفنزويلي إلى الواجهة الآن؟
أشار تقرير لـ”أسوشيتد برس” إلى أن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو كان المحرّك الأبرز وراء التصعيد ضد فنزويلا، مستنداً إلى مساره السياسي الطويل في مواجهة الأنظمة اليسارية في أميركا اللاتينية. التقرير أوضح أن دوافع روبيو تعود إلى خلفيته العائلية كابن لمهاجرين كوبيين، ما جعله يعتبر حكم مادورو امتداداً لإرث فيدل كاسترو الشيوعي.
وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو – بلومبرغ
وبحسب صحيفة “ذا غارديان”، فإن الضربة الأمريكية على الزورق أعادت إلى الواجهة سيناريو مواجهة مفتوحة قد تتجاوز كونها عملية أمنية إلى مشروع سياسي لتغيير النظام، محذّرة من أن التصعيد العسكري قد يجرّ الولايات المتحدة إلى صراع طويل الأمد يشبه “حرب عصابات” داخل الأراضي الفنزويلية.
ما أهمية المنطقة التي شهدت القصف، ولماذا استهدفتها واشنطن؟
تشير تقارير رويترز إلى أن المنطقة التي شهدت الضربة تقع في جنوب البحر الكاريبي، وهي إحدى أكثر نقاط العبور استخداماً لتهريب الكوكايين من فنزويلا وكولومبيا نحو أميركا الوسطى والولايات المتحدة. وتعتبر واشنطن هذه المياه بمثابة “شريان رئيسي” لشبكات التهريب، وفي مقدمتها عصابة ” ترين دي أراغوا” التي توسعت إقليمياً خلال السنوات الماضية، ما جعلها هدفاً مباشراً للعمليات الأمريكية.
إلى جانب بعدها الجغرافي، فإن المنطقة تكتسب أهمية استراتيجية لقربها من الأراضي الأمريكية في الكاريبي مثل بورتو ريكو، وهو ما يفسر تصنيف أي نشاط تهريب فيها كتهديد مباشر للأمن الوطني. وبحسب “أسوشيتد برس”، فإن الضربة تمثل تحولاً في سياسة واشنطن التي اعتادت اعتراض القوارب عبر خفر السواحل، لتنتقل إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة.
هل يمكن أن تفرض واشنطن عقوبات نفطية جديدة على فنزويلا بسبب اتهامات تجارة المخدرات؟
منذ 2015، سمحت الأوامر التنفيذية الأمريكية بفرض عقوبات على مسؤولين فنزويليين متورطين في الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وتصاعد هذا المسار بشكل لافت خلال إدارة ترمب الأولى التي تبنّت استراتيجية “الضغط الأقصى”، فأقرت مئات العقوبات شملت أفراداً وقطاعات كاملة مثل النفط والذهب والقطاع المالي والدفاعي. ومع وصول إدارة بايدن، جرى التراجع عن النهج القطاعي الواسع لصالح سياسة أكثر انتقائية تقوم على منح تراخيص لشركات الطاقة مقابل تنازلات سياسية.
وحتى يناير 2025، وصل عدد الأفراد المرتبطين بفنزويلا على قائمة العقوبات الأمريكية إلى 202 شخص، غالبيتهم من الأجهزة الأمنية والعسكرية، بحسب تقرير “أتلانتيك كاونسيل” (Atlantic Council).
ورغم أن العقوبات النفطية كانت جزءاً من استراتيجية واشنطن في مرحلة “الضغط الأقصى”، فإن التقرير الصادر يناير الماضي يوضح أن الميل الحالي هو إلى استخدام العقوبات الفردية كأداة رئيسية، لتقويض النخبة المحيطة بمادورو. ومع ذلك، يظل خيار العودة إلى العقوبات النفطية الواسعة قائماً إذا توفرت أدلة قوية على تورط النظام بشكل مباشر في تجارة المخدرات.
كيف يمكن أن تمتد تأثيرات الأزمة للاقتصاد العالمي؟
أي تصعيد جديد ضد فنزويلا، سواء عبر توسيع العقوبات أو استهداف صادراتها النفطية، قد يؤثر مباشرة على أسواق الطاقة العالمية، إذ إن أي تهديد لإمداداتها سيضيف توتراً إلى سوق تعاني بالفعل من تقلبات مرتبطة بالحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط، ما يزيد احتمالات موجة جديدة من ارتفاع أسعار النفط.
فوهة برميل نفط – المصدر: بلومبرغ
أما على صعيد التمويل الدولي والديون السيادية، فقد شكّلت العقوبات السابقة حاجزاً أمام فنزويلا للوصول إلى أسواق المال وإعادة هيكلة ديونها. وبالتالي فإن أي عقوبات إضافية قد تؤثر على ثقة المستثمرين في سندات الأسواق الناشئة الأخرى، خصوصاً في أميركا اللاتينية، ما ينعكس على تكلفة الاقتراض عالمياً ويزيد من قلق المؤسسات المالية.
إلى جانب ذلك، تبرز أزمة الهجرة الفنزويلية كعامل اقتصادي ثقيل على دول الجوار. فقد دفعت الأزمات أكثر من ثمانية ملايين فنزويلي إلى النزوح، وهو ما يُعد أكبر موجة لجوء في تاريخ أميركا اللاتينية الحديث. وأي تصعيد جديد سيضاعف الضغوط على اقتصادات مثل كولومبيا والبرازيل وتشيلي، التي تواجه بالفعل أعباء مالية واجتماعية ثقيلة.