“ليس مجرد نموذج لغوي ضخم، بل إعلان واضح أن العالم العربي يمتلك القدرة على الابتكار والتدريب”.. كلمات اختارها بعناية طارق أمين الرئيس التنفيذي لشركة هيوماين وهو يعلن إطلاق “علّام” أول نموذج ذكاء اصطناعي تم تطويره بالكامل داخل السعودية على يد فريق مكون من 40 باحثا يعملون جميعهم في الرياض، حيث يركز النموذج الجديد على اللغة العربية بجميع لهجاتها إذ يحتوي على 380 مليار كلمة من محتوى اللغة العربية، كما أنه مزود بحواجز أمان ثقافية وسياسية مصممة خصيصا لتتماشى مع القيم العربية.
حظى “علّام” باهتمام دولي واسع منذ اللحظة الأولى وأشادت به صحيفة “ذا تايمز” الإنجليزية، مؤكدة أنه يقدم طلاقة عالية في اللغة العربية مع الالتزام بالقيم الإسلامية، لكن النصيب الأكبر من الاهتمام ذهب صوب شركة هيوماين المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة والتي أطلقها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في مايو الماضي، لتكون ذراع الدولة في تطوير وإدارة حلول وتقنيات الذكاء الاصطناعي وركيزة أساسية في الاستثمار، خاصة بعد أن أعلنت السعودية في يوليو الماضي تخصيص أكثر من 40 مليار دولار للاستثمارات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ضمن مساعي التحول إلى اقتصاد معرفي.
سريعا بدأت “هيوماين” عملها بشراكات عملاقة مثل الشراكة مع أمازون ويب سيرفيسز لاستثمار أكثر من 5 مليارات دولار في ببناء منطقة للذكاء الاصطناعي في السعودية تشمل خوادم وشبكات وبرامج تدريب وشهادات معتمدة، كما تكرر ذلك مع “إيه إم دي” العملاقة بقيمة بلغت 10 مليارات دولارات لتوسيع بنية الذكاء الاصطناعي التحتية في المملكة وبناء منصة سحابية من الجيل القادم تعمل ابتداء من 2026، ويهدف ذلك كله إلى نشرة قدرة حوسبية بقدرة 500 ميجاوات خلال 5 سنوات، إضافة إلى تعاون مع “كوالكوم” لإقامة مركز لتصميم الشرائح في الرياض باستثمار قيمته ملياري دولار.
أهداف “هيوماين” من وراء تلك الشراكات كثيرة ومتعددة، ففي البداية تريد الشركة السعودية بناء سعة تشغيلية ضخمة في مراكز البيانات تصل إلى 1.9 جيجاوات بحلول عام 2030، و6.6 جيجاوات بحلول عام 2034، ويبلغ إجمالي التكلفة لذلك 77 مليار دولار – وفقا لأسعار السوق الحالية، ومن المفترض أن تتضمن المرحلة الأولى من العمل بناء مركزين كل منهما بسعة 100 ميجاوات في الرياض والدمام، كما تسعى إلى توفير فرص عمل من خلال الاتفاقات مع الشركات الكبرى.
تشير التقديرات إلى أن الشراكات التي تم توقيعها حتى الآن ستوفر 22 ألف وظيفة وستسهم بـ24 مليار دولار في الناتج المحلي حتى عام 2030.
بحوزة “هيوماين” عدة أهداف تشمل تمكين الشباب السعودي بالمهارات اللازمة وخلق كوادر بشرية قادرة على تولي مسؤولية هذا القطاع خلال السنوات المقبلة، كما تستهدف تعزيز التشغيل المحلي وتنمية الابتكار خاصة عبر المشاريع التكنولوجية الحيوية مثل تطوير نماذج لغوية وفهم أحدث التقنيات في عالم الحوسبة السحابية ومراكز البيانات، ما يؤدي في النهاية إلى التوطين وبناء الكفاءات اللازمة له.
نجاحات “هيوماين” لا يمكن فصلها عن ما حدث خلال السنوات السابقة وتحديدا منذ عام 2019 حين شرعت السعودية في تأسيس قاعدة مؤسساتية وتقنية قوية قادرة على استيعاب كل التحديثات، وكانت البداية بإطلاق هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي “سدايا” لتكون المرجع الوطني لهذا القطاع، وفي العام التالي تم إعلان الإستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي واستهدفت أن تنضم المملكة لقائمة أفضل 15 دولة عالميًا في هذا المجال بحلول عام 2030، إضافة إلى استقطاب 50 مليار دولار استثمارات محلية وأجنبية.
استثمارات مبكرة في مراكز البيانات ومجال الشرائح والمعالجات، وإطلاق مبادرات مع شركات مثل “جوجل كلاود” و”هاواوي” ودعم مشروعات مثل “نيوم تيك”، كلها خطوات دفعت بالسعودية إلى الأمام في فترة قصيرة جدًا، كما أن تنظيم مؤتمرات دولية مثل “القمة العالمية للذكاء الاصطناعي” التي انعقدت في الرياض لأول مرة عام 2020 وتكررت بعد ذلك، جعل من المملكة منصة دولية لعرض فرص الاستثمار والتقنيات، وأسفرت تلك الجهود عن وصول قيمة سوق خدمات مراكز البيانات في السعودية إلى 1.67 مليار دولار مع توقعات بأن يصل إلى 6.35 مليار دولار في 2033 بنسبة نمو سنوي 14.8% وفقًا لشركة “آي مارك جروب” الأمريكية والمتخصصة في أبحاث السوق والاستشارات التجارية.
البيئة المناسبة مهدت الطريق جيدًا لـ”هيوماين” التي انطلقت سريعًا ليس فقط في مجال الذكاء الاصطناعي والنماذج التوليدية كـ”علاّم”، بل أتاحت لها الفرصة لتخوض معركة منتجات أخرى مثل تطوير “حاسوب” مع ذكاء اصطناعي مدمج أعلنت عنه الشركة وأوضحت أن موعد طرحه في الأسواق سيكون خلال الأشهر المقبلة، لتفتح بذلك باب أسئلة عن المنتج التالي لهذا العملاق السعودي الواعد ؟
من منظور عالمي كانت الرؤية أوسع، فخطوات هيوماين الكبيرة شكلت تغيير في خريطة الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط والعالم، إذ أصبحت السعودية تتجه بسرعة نحو الريادة بعد التوسع في سوق مراكز البيانات حيث باتت تمثل نحو 50% من الطاقة التخزينية القادمة وفقًا لشبكة “غلو بنيوز واير” الأمريكية، كما تستهدف “هيوماين” معالجة 7% من حجم أعمال الذكاء الاصطناعي العالمي بحلول عام 2030 بحسب تصريحات رئيسها التنفيذي، لكن الأهم من ذلك كله هو ما أشارت إليه صحيفة “بارونز” المرموقة حين وصفت نموذج “علّام” وشركة “هيوماين” بأنهما خطوات نحو “الذكاء الاصطناعي السيادي” الذي يعبر عن الاستقلالية التكنولوجية والحفاظ على الهوية الرقمية في نفس الوقت، أو بوصف آخر لصحيفة “ذا تايمز” الإنجليزية “السعودية تشكل مستقبل الذكاء الاصطناعي بشروطها الخاصة”.