في وقت كان الاقتصاد العالمي ما زال يعاني اضطرابات سلاسل التوريد جراء تداعيات جائحة كورونا، التي لم يتعاف منها بالكامل بعد، نشبت ما تعرف بحرب الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين، أكبر متنافسين اقتصاديين في العالم.

رافقت ذلك توترات جيوسياسية غير معتادة في مناطق متفرقة من العالم، لترتسم ملامح مشهد متعدد الأبعاد، جعل قضية التضخم وكبحه من أبرز أولويات صناع القرار الاقتصادي.

بلغ التضخم ذروته في عامي 2022 و2023، وبالرغم من أنه سجل انخفاضا ملحوظا منذ ذلك الحين، فإنه ما زال أعلى من معدلات ما قبل الجائحة.

بينما تسود حالة من التفاؤل بين الخبراء بشأن استمرار هبوط التضخم العالمي إلى 4.4% بنهاية هذا العام، من 5.8% العام الماضي، فإن مخاطر استمرار اختناقات سلاسل التوريد في العالم، إضافة إلى انعكاسات التوترات الجيوسياسية على أسعار الطاقة، قد تقلب الموازين وتدفعه للارتفاع مجددا.

أنظار العالم تراقب التضخم في الولايات المتحدة

يراقب العالم عن كثب السيناريوهات المحتملة للتضخم في الولايات المتحدة، فدورها القيادي في الاقتصاد العالمي، والتأثير المباشر لمعدلات التضخم فيها على قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) بشأن سعر الفائدة، يجعلان معدل التضخم الأمريكي قضية عالمية.

بينما يُقدّر التضخم في الولايات المتحدة هذا العام بنحو 3%، انخفاضا من 3.6% العام الماضي، فإن أستاذ الاقتصاد العالمي الدكتور أوبراين بيرجل، يرى أن هذا المستوى ما زال أعلى من مستهدف الفيدرالي، البالغ 2%.

هذا الأمر يدفع محافظ الفيدرالي الأمريكي جيروم بأول إلى توخي الحذر “ورد أي ضغط من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بخفض الفائدة، خشية أن تؤدي الحرب التجارية القائمة مع الصين إلى دوامات سعرية تجبره على رفع الفائدة مجددا”، وفقا لما قاله بيرجل لـ”الاقتصادية”.

ومن شأن الحرب التجارية هذه، إذا ما تفاقمت، أن تؤدي إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي المحلي والعالمي، بحسب الخبير الاقتصادي.

التضخم في منطقة اليورو يرسم صورة أكثر إشراقا

في منطقة اليورو، تبدو الصورة أكثر إشراقا، إذ من المتوقع أن ينخفض التضخم الإجمالي إلى 2.3% بنهاية هذا العام، قبل أن يتراجع إلى 1.4% في الربع الأول من العام المقبل، ويستقر عند مستهدف البنك المركزي الأوروبي، البالغ 2% بحلول 2027.

يعزو وندسور فنسنت، الباحث في الاقتصاد الأوروبي، تفوق المشهد الأوروبي على الأمريكي إلى قوة اليورو، التي تضغط على أسعار الواردات في وقت تواجه فيه العملة الأمريكية تراجعا نتيجة للتوجهات الحالية نحو إضعافها من أجل تعزيز الصادرات.

في المملكة المتحدة، تتراجع ثقة المستهلكين والشركات في قدرة بنك إنجلترا على ضبط التضخم، الذي يقف حاليا عند معدل أعلى بكثير من هدف 2%. ويتوقع الخبراء أن يبلغ متوسط التضخم 3.4% بنهاية العام، ما يعكس ضغوطا متزايدة على مستوى المعيشة.

الاقتصادات الناشئة أمام مشهد مليء بالتباينات

على صعيد الدول النامية والاقتصادات الناشئة، يظهر تباين واضح بين بعضها البعض.

في البرازيل وجنوب إفريقيا على سبيل المثال، سجل التضخم تراجعا ملحوظا، دفع بنوكها المركزية إلى خفض الفائدة وتيسير السياسة النقدية.

في المقابل، تحافظ دول أخرى، مثل الهند وتركيا، على معدلات فائدة حقيقية مرتفعة جراء تراجع قيمة عملاتها الوطنية وانعكاس ذلك سلبا على التضخم.

هذا المشهد المعقد يجعل صناع القرار وواضعي السياسات النقدية أمام معضلة صعبة: فكيف يمكنهم كبح جماح التضخم دون أن يدفعوا اقتصاداتهم إلى الركود.

مرونة السياسات النقدية ضرورة ملحة

يتعين على صناع السياسات النقدية في هذا المشهد الموازنة بدقة بين خفض التضخم والحفاظ على وتيرة النمو، فالاختيارات التي يتخذونها اليوم بتحريك أسعار الفائدة صعودا أو هبوطا، ستحدد قدرة الاقتصاد العالمي على التعامل مع المسارات المختلفة للتضخم مستقبلا.

ومع استمرار الضغوط الجيوسياسية وتقلب أسعار الطاقة، تصبح المرونة في السياسات النقدية أكثر أهمية من أي وقت مضى.

في هذا السياق، فإن تبنّي آليات تتيح ضبطا ملحوظا لأسعار السلع والخدمات ومعدلات الفائدة، وربطها بمؤشرات حقيقية مثل انكماش العرض أو ارتفاع تكاليف الطاقة، قد يوفر حماية مزدوجة تحد من التضخم دون أن تخنق النمو، بما يؤسس لإطار عمل أكثر مرونة واستدامة في وجه تقلبات الغد.

شاركها.