ملك الأسهم وارن بافيت .. مستثمر بالفطرة وملياردير كل الأجيال
جلس بافيت في مكتبه منذ الصباح، وكالمعتاد تابع مع عملائه أسعار الأسهم، وأعطاهم نصائح الشراء والبيع، بينما دوّن ابنه وارن حركة الأسهم على لوح خشبي مخصص لذلك، وأثناء وقت الراحة، رفض الابن العودة إلى المنزل، وبقى في المكتب الخالي من الأثاث و وسائل التهوية الجيدة، ليقرر ساعتها شراء أسهم في شركة سيتيز سيرفيس بسعر 38 دولارا للسهم الواحد دون علم والده الذي لم يخطر على باله أن يكون هذا تفكير صبي في الحادية عشر من عمره، ولم يتخيل الصبي نفسه أنه بهذا الاستثمار بدأ رحلة ستمتد لعقود، وستجعله ملك المؤشرات المالية وصاحب ثروة ضخمة بلغت 150 مليار دولار في سبتمبر الماضي.
وُلد وارن بافيت في 30 أغسطس 1930 بولاية نبراسكا الأمريكية، ونتيجة ولادته أثناء فترة الكساد العظيم، عاش طفولة صعبة، فوالده الذي عمل سمسارا ماليا تراجع دخله نتيجة الأزمة، ومدينته المليئة بالبحيرات الطبيعية وجبال الثلوج عانت قلة السائحين، فلم يجد الطفل أمامه سوى شوارع شبه خالية وبيت بلا رفاهيات، لذلك اتجه إلى العمل صغيرا بالتوازي مع التحاقه بالتعليم الذي أحبه، ونبغ في الرياضيات لدرجة دفعت أقرانه لتلقيبه بـ”المعجزة الرياضية”.
تلك الحياة الصعبة، تغيّرت في 1942، حين تم انتخاب والده في مجلس النواب الأمريكي، وانتقلت عائلته إلى مدينة فريدريسكبورغ بولاية فيرجينيا، لكن وارن فضل حياته كعامل وتلميذ في الوقت نفسه، فعمل في مدينته الجديدة بائع صحف لدى الواشنطن بوست مقابل 175 دولار شهريا، كما تعلم مهارات الرهان في سباق الخيل فصار يقدم نصائحه مقابل الأموال، وهكذا كلما وجد فرصة للحصول على النقود اغتنمها، وتعلم كثير في تلك الفترة، مثلما حدث حين طلب منه صديقه أن ينقل ألواحا ثلجية، وبعد انتهاء العمل فوجئ وارن أن أجره قليل، ما دفعه للقول لاحقا، أن أول درس تعلمه هو أن لا يعمل قبل أن يفاوض على أجره.
في مدرسة وورد ويلسون الثانوية، ومع تفوقه الدراسي، استكمل وارن حياته الاستثمارية، فاشترى مع صديق له ماكينة ألعاب بينبول بقيمة 25 دولارا، واستأجرها للطلاب، وخلال أيام جنى أرباحا مكنّته من شراء ماكينات أخرى ثم باعهم جميعا محققا ربح فاق الـ 200 دولار حينها، وحين التحق بجامعة بنسلفانيا لدراسة التجارة، كانت ثروته قد وصلت إلى 10 آلاف دولار، لكنه بعد عامين فقط حاول الالتحاق بجامعة هارفارد التي رفضته فاتجه إلى جامعة كولومبيا التي استكمل فيها دراسة البكالوريوس.
في الفلسفة اليونانية، ثمة قاعدة تقول: ” لكل شخص عراب خاص به”، ومهمة هذا العراب تغيير حياة الشخص إلى الأفضل، وهذا بالضبط مع فعله العالم الاقتصادي بنيامين غراهام مع وارن بافيت، وقد بدأت علاقة الاثنين حين قرأ وارن كتاب “المستثمر الذكي” لبنيامين، وفتن به لدرجة جعلته يلتحق بجامعة كولومبيا تحديدا للتتلمذ على يديه إذ كان “غراهام” أستاذ جامعي بها، وبالفعل سرعان ما انتبه الأستاذ إلى التلميذ النابغة، فساعده على الحصول على درجة الماجستير 1951، ثم رشحه للعمل بشركة بافيت فالك لبيع السندات المالية، التي عمل فيها “وارن” لمدة 3 أعوام، عاد بعدها للعمل في شركة يملكها جراها نيومن.
لا تبحث عن أسهم الشركات الناجحة، ابحث عن أسهم الشركات الخاسرة التي تملك أصول قوية وتنتج منتجات مطلوبة، هكذا كانت نصيحة بنيامين إلى تلميذه النجيب، وهي النصيحة التي فتحت أبواب الثروة أمام “وارن” الذي أسس شركة في مسقط رأسه للخدمات المالية، ثم وضع عينيه على شركة منسوجات بيركشير هاثاوي التي ظل يشتري أسهمها حتى امتلكها بالكامل في 1965، ورغم نجاحه كمحلل مالي، لكنه تفرغ للشركة الجديدة، ثم كرر الأمر مع شركات أخرى مثل شركة الأخوة سالمون التي كانت تعاني الفضائح فاشتراها في 1987، وهكذا حتى صار مديرا لشركات عالمية وتحوي مجموعته الضخمة نحو 90 شركة وهو ما يتوفر لـ 13 فردا فقط في العالم.
هذا النجاح العالمي في الاستثمار، لم ينعكس على حياة وارن بافيت الشخصية، وهو ما جعله أغرب ملياردير في التاريخ الحديث، إذ مازال يعيش في منزله الذي اشتراه بأوماها عام 1958 مقابل 31 ألف دولار، كما أنه لا يشترك في أي ناد، ولا يستخدم سيارات أو طائرات شركاته في أي غرض شخصي، والأغرب أنه يتقاضى من شركاته راتب شهري يبلغ 100 ألف دولار، ولم يرتفع الراتب منذ 1980، لذلك، لم يكن غريبا أن يعلن في 2006 تبرعه بأكثر من 90% من ثروته للأعمال الخيرية، وهو قرار اتخذه بعد وفاة زوجته سوزان بافيت، المغنية الأمريكية التي تزوجها في 1952 ورحلت في 2004، كما أصيب هو بالسرطان في الوقت نفسه لكنه تماثل للشفاء.
لم تتأثر ثروة بافيت حتى بعد التبرع بمعظمها، فأرباح شركاته الضخمة دفعت به لأن يكون أغنى رجل في العالم عام 2008، ليكرر التبرع لكن تلك المرة بنسبة 85 % لمؤسسة بيل وميلندا غيتس، كما أطلق حملة عهد العطاء في 2010 لحث الأثرياء على العمل الخيرى، ما دفع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إلى منحه ميدالية الحرية الرئاسية في 2011، وهي واحدة من أرفع الأوسمة الأمريكية.
خلال العقد الماضي، اعتاد الناس على تنافس يصل إلى حد تكسير العظام بين أثرياء العالم مثل إيلون ماسك وبيل غيتس وجيف بيزوس ومارك زوكربيرغ، لكن كل هؤلاء يجلسون تلاميذ في محاضرات وارن بافيت، ولا يجرؤ أحد منهم على منافسة “ملك الأسهم”، فهو من يرسم لهم الخريطة ويفتح لهم أبواب الثروة، رغم ذلك، لم يلتزم أحد فيهم بنصيحة بافيت الذهبية وهي القراءة، فالرجل الذي يقرأ 500 صفحة يوميا و50 كتاب سنويا، فشل في نقل تلك العادة إلى تلاميذه الذين فضلوا نصيحته الثانية التي تقول: “استثمر بحرّ مالك ولا تستدين من أجل مشروع إطلاقا!”.