اخر الاخبار

صراع للهيمنة على سوق المعادن النادرة .. الحلف “الصامت” هل يحجم الصين؟

في 7 سبتمبر 2010 اصطدم قارب صيد صيني بسفينتين تابعتين لخفر السواحل الياباني قبالة جزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي، بطبيعة الحال قام خفر السواحل الياباني بإلقاء القبض على قبطان قارب الصيد.

كان يمكن لوسائل الإعلام أن تتجاهل الحادث، أو أن يحتل في أفضل الأحوال مساحة صغيرة في بعض الصحف اليابانية والصينية، لكن فجأة وبدون سابق إنذار بات الحادث العنوان الرئيس في الإعلام الدولي بسبب رد فعل الصين، إذ أعلنت الحكومة الصينية وقف تصدير “المعادن الأرضية النادرة” إلى اليابان.

أدى القرار الصيني إلى حالة من الذعر تجاوزت الصناعات اليابانية الى الأسواق الأمريكية والاتحاد الأوروبي، ودب الهلع في صناعة السيارات العالمية، حيث لا غنى عن المعادن الأرضية النادرة لإنتاج المغناطيسات الدائمة المستخدمة في السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح.

كان الفزع في اليابان أكبر من أي دولة أخرى لاعتمادها بشكل كامل على الصين فيما يقرب من 90 % من وارداتها من هذه المواد.

في نهاية المطاف تم حل المشكلة بإطلاق سراح قبطان قارب الصيد، لكن عالم المعادن الأرضية النادرة لم يعد كما كان من قبل، إذ قفزت الأسعار 10 مرات في العام التالي للحادث، وزاد الوعي الغربي بالهيمنة الصينية، فبدأ أكثر من 200 مشروع جديد على مستوى العالم لتنويع سلاسل التوريد، وتم إحياء منجم ماونتن باس في الولايات المتحدة في 2012 ويسهم الآن بـ 15 % تقريبا من الإنتاج العالمي من الأتربة النادرة.

في تحرك إستراتيجي بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وأستراليا في تشكيل ما يمكن وصفه بحلف صامت لتقليص اعتمادهم على الواردات الصينية من الأتربة النادرة، لإدراكهم أن لدى بكين ورقة ضغط بإمكانها استخدامها متى شاءت لإلحاق كثير من الأذى الاقتصادي بهم.

منذ وقع هذا الحادث والإعلام العالمي يسلط الضوء على أسواق المعادن الأرضية النادرة ويراقب من كثب الصراع الدولي الدائر بشأنها، ويرصد الجهود التي يبذلها منافسي الصين لوضع حزمة من التدابير الشاملة لزيادة الإنتاج ولتعزيز مرونة سلاسل توريد المعادن الأرضية، وفي عالم اليوم بات الحديث عن المعادن الأرضية النادرة أحد الموضوعات الأساسية في وسائل الإعلامي.

لكن السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن لماذا يطلق على تلك المعادن هذا الاسم، وإلى أي مدى تتصف بالندرة فعلا؟

التسمية ودور التكنولوجيا
لا شك أن التكنولوجيا تعمل على جعل العناصر النادرة من بين العناصر الأكثر قيمة على وجه الأرض، مع هذا يبدو الاسم خادعا بعض الشيء، فمن الناحية الجيولوجية لا تعد تلك العناصر نادرة بشكل كبير، إذ توجد رواسبها المعدنية في عديد من الأماكن حول العالم، بل أن بعضها متوافر في القشرة الأرضية بنفس وفرة معادن شديدة الانتشار مثل النحاس والقصدير، وبعضها الآخر أكثر وفرة من الفضة والزئبق.

إذن من أين نبع هذا الاسم؟ الباحث إل. دي. مارك من معهد تاريخ العلم يقول لـ “الاقتصادية”: العناصر الأرضية النادرة 17 عنصرا معدنيا تتمتع بخصائص مميزة غير عادية ما يجعلها مفيدة جدا عند خلطها بكميات صغيرة مع معادن أكثر شيوعا مثل الحديد، وظهر مصطلح العناصر النادرة عندما اكتشف عامل مناجم صخرة سوداء غير عادية في مدينة يتربي السويدية عام 1788، واطلق على الخام المكتشف اسم “خام نادر” لأنه لم يتم رؤيته من قبل، كما أن تلك العناصر لا يتم العثور عليها أبدا بتركيزات عالية جدا، وغالبا ما يتم العثور عليها ممزوجة مع بعضها البعض أو مع عناصر مشعة مثل اليورانيوم والثوريوم، ومن الصعب العثور على رواسبها بشكل مجدي اقتصاديا.

غالبا ما يتم تقسيم العناصر الأرضية النادرة إلى فئتين وفقا لوزنها الذري: خفيفة وثقيلة باستثناء معدن واحد “سكانديوم” ويقع خارج هذا التصنيف.

ويعد العلماء أن النيوديميوم والبراسيوديميوم وينتميان إلى فئة المعادن النادرة الخفيفة هما الأكثر أهمية، فالأول يستخدم تقريبا في كل شيء بدءا من الهواتف المحمولة والسيارات الكهربائية والمعدات الطبية الى أنظمة تخزين البيانات وتوربينات الرياح، أما البراسيوديميوم فيستخدم مع المغنسيوم لتشكيل محركات الطائرات.

يضاف إلى هذين المعدنين 3 معادن أخرى وهم الديسبروسيوم والايتريوم والتيربيوم ويستخدمون في تطوير تقنيات الطاقة النظيفة والسيارات الهجينة والألياف الضوئية والأجهزة الطبية وعديد من التطبيقات الأخرى من بينها المساعدة في تبريد قضبان الوقود في المفاعلات النووية للحفاظ على التفاعلات تحت السيطرة.

مكونات 200 منتج
الدكتور روجر بلانكو من مركز أبحاث العلوم التطبيقية يقول لـ”الاقتصادية”: الأتربة النادرة مكونات ضرورية لأكثر من 200 منتج عبر مجموعة واسعة من التطبيقات وخاصة المنتجات الاستهلاكية ذات التقنية العالية، لهذا تقوم بدور حاسم في الصناعات التكنولوجية المتقدمة، بما في ذلك صناعة الإلكترونيات والطاقة المتجددة والدفاع والفضاء، وبعض تلك المعادن يستخدم في تصنيع المغناطيسات القوية المستخدمة في الأجهزة الالكترونية مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر المحمولة والسيارات الكهربائية.

وأضاف “وفي مجال الطاقة المتجددة يستخدم الإنديوم والتيلوريوم وكلاهما من المعادن النادرة في تصنيع الألواح الشمسية ومعادن أخرى من تلك الفئة تستخدم في إنتاج توربينات الرياح، وفي المجال الدفاعي تستخدم في تصنيع أنظمة التوجيه والأجهزة البصرية”.

ويؤكد أنه “رغم أن كمية العناصر الأرضية النادرة المستخدمة في المنتج قد لا تكون جزءا كبيرا من هذا المنتج من حيث الوزن أو القيمة أو الحجم، إلا أنه ضروري لعمل الجهاز، وعلى سبيل المثال غالبا ما تمثل المغناطيسات المصنوعة من العناصر الأرضية النادرة جزءا صغيرا فقط من الوزن الإجمالي لكن بدونها لن تكون الملفات الصوتية لأجهزة الكومبيوتر المكتبية أو المحمولة ممكنة”.

ويضيف “العالم المعاصر يتحول إلى الاقتصاد الأخضر حتى وإن تم ذلك ببطء وتعد العناصر الأرضية النادرة والمغناطيسات أمرا حيويا لتحقيق ذلك، بدونها لا يستطيع العالم تحقيق انتقال كامل لمستقبل يعتمد على الطاقة النظيفة”.

في 2022 كانت مركبات المعادن الأرضية النادرة هي المنتج رقم 658 الأكثر تداولا في العالم، بإجمالي قدره 3.34 مليار دولار، وارتفعت الصادرات من الأتربة النادرة من 2.72 مليار دولار عام 2021 إلى 3.34 مليار دولار في العام الذي يليه.

على الصعيد العالمي تضاعف إجمالي إنتاج المناجم من العناصر الأرضية النادرة أكثر من الضعف بين عامي 20020 و2023، ومن نحو 133 ألف طن متري في 2010 نما إنتاج العاصر الأرضية النادرة إلى ما يقدر بـ 350 ألف طن متري العام الماضي، وترجح عديد من المؤسسات ومراكز الأبحاث العالمية أن يزيد الطلب العالمي على العناصر الأرضية النادرة 7 أضعاف بحلول 2040.
لكن انتشار العناصر الأرضية النادرة في عديد من البلدان لا ينفي هيمنة الصين على الأسواق.

في العام الماضي أنتجت الصين الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي بـ240 ألف طن متري، وهذا المستوى من السيطرة من قبل المنتجين الصينيين جعل من الصعب للغاية على المنتجين الآخرين استخراج أو بيع العناصر الأرضية النادرة.

في هذا السياق، تعلق جيسيكا جاكوب أستاذة الجغرافيا السياسية في جامعة لندن قائلة ” تسيطر الصين على أكثر من 70 % من الإنتاج العالمي و85 % من قدرة المعالجة، لكن من المتوقع هذا العام معدل زيادة أبطأ في حصصها من المعادن الأرضية النادرة بنسبة تراوح بين 10-15 %”.

وتضيف “الولايات المتحدة ثاني أكبر منتج للأتربة النادرة وبلغ إنتاجها 43 ألف طن متري فقط بنسبة 14 % من الإنتاج العالمي، وأغلب الإنتاج يأتي من ولاية كاليفورنيا، وقد حدث تغير في النهج الأمريكي في إنتاج تلك العناصر في السنوات الأخيرة، إذ بدأت في إعادة بناء صناعتها للمعادن النادرة بهدف تقليل الاعتماد على الواردات خاصة من الصين”.

وتضيف “اليابان وأستراليا لاعبان مهمان للغاية في الصناعة، وإذا كانت اليابان تعمل على تأمين إمدادات مستقرة من تلك المعادن عبر الاستثمار في مشاريع في أستراليا وفيتنام، فإن أستراليا تحظى بـ 4 % من الإنتاج العالمي، وهي في مقدمة الدول التي تمتلك احتياطات كبيرة من المعادن النادرة”.

ضعف الاتحاد الاوروبي
يبدو الاتحاد الأوروبي لاعبا آخر تزداد أهمية عبر تطوير إستراتيجية لتأمين الأتربة النادرة بالتنقيب والاستثمار وتعزيز التعاون مع الدول المنتجة، ويستهدف الأوروبيون أن يتمكن من استخراج 10 % من احتياجاتهم ومعالجة 40 % وتلبية 25 % من الطلب من إعادة التدوير بحلول 2030.

وعلى الرغم من أن القارة الأوروبية تمتلك رواسب غنية من الأتربة النادرة لكن لا يتم استخراجها حاليا، ومن غير المرجح أن يتغير هذا على المدى القريب مع توقف بعض المشاريع بسبب معارضة أنصار البيئة.

كما أن المستويات الحالية للأسعار تجعل معظم المناجم الأوروبية غير مربحة اذا لم تنال دعم حكومي أو من شركات صناعة السيارات، وربما تستعد الشركات الأوروبية للاستفادة من الإمكانات الهائلة لإعادة التدوير لتوفير العناصر الأرضية النادرة، لكن الأمر قد يستغرق وقتا قبل أن يكون هناك ما يكفي من المعروض من المركبات الكهربائية القديمة وتوربينات الرياح لمعالجتها.

مع هذا، يرى أستاذ الاقتصاد العالمي في جامعة شيفيلد الدكتور أرون جورج أن المنافسة بين العملاقين الأمريكي والصين في مجال العناصر الأرضية النادرة وعلى الرغم من حدتها في الوقت الراهن ستزداد حدة في السنوات والعقود المقبلة بسبب تنامي الاقتصاد الأخضر على المستوى الدولي، ومن ثم زيادة الطلب على الأتربة النادرة.

ويقول لـ”الاقتصادية”: لم تتراجع الصين عن طموحها في مواصلة السيطرة على أسواق الأتربة النادرة، وتطلعت إلى طرق جديدة لتحسين حصتها في هذا القطاع، إذ بدأت في شراء أسهم في شركات غربية لتنويع حصتها، في الوقت ذاته تعزز الدولة قبضتها في مجال إدارة صناعة الأتربة النادرة عبر سلسلة من القوانين التي تحكم عملية التعدين وصهر المعادن وتداولها وستدخل القواعد الجديدة حيز التنفيذ في شهر أكتوبر المقبل.

ويضيف “تدرك الولايات المتحدة التحدي الذي تمثله الصين في المنافسة على الأتربة النادرة، وسعت إدارة بايدن في خفض الواردات الأمريكية من المعادن الأرضية النادرة الصينية في محاولة لتقليل الاعتماد الأمريكي على الصين في مجال المعادن المهمة، وفي الآونة الأخيرة بدأ البيت الأبيض حملة لإقامة شراكات جديدة مع الحلفاء في مجال التعدين وتعزيز استثمارات التعدين الداخلي، وإذا ما صدقت الترجيحات بشأن عودة الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض فإن الأتربة النادرة ستكون واحدة من جبهات الصراع الأمريكي الصيني.

ثراء القارة الفقيرة
يعتقد الدكتور أرون جورج أن القارة الإفريقية ستكون الساحة المقبلة للصراع ليس فقط بين الولايات المتحدة والصين، بل أيضا والاتحاد الأوروبي من أجل السيطرة على مصادر الأتربة النادرة في القارة السمراء.

تشير البيانات الدولية أن إفريقيا تمتلك بمفردها 30 % من احتياطات المعادن في العالم، ولا تبدو الإمكانات الهائلة للقارة السمراء في مجال المعادن الأرضية النادرة غير مستغلة إلى حد كبير نظرا لانخفاض الاستكشافات، فعلى سبيل المثال وفي 2021 كانت ميزانية استكشاف التعدين في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ثاني أدنى ميزانية في العالم، ولا تزال أغلب عمليات الاستكشاف تتركز في الذهب بدلا من الأتربة النادرة أو المعادن المهمة للتحول إلى الطاقة النظيفة.

لكن الصراع الجيو سياسي بين الصين والولايات المتحدة والسعي للسيطرة على مصادر إنتاج الأتربة النادرة سمح بتوسيع نطاق الاستكشاف في القارة التي كشفت عن عديد من ودائعها الغنية، فقبل عامين أعلنت شركة استكشاف كندية توقعها أن يبدأ منجمها للأتربة النادرة في ملاوي الإنتاج في 2025.

وأعلنت شركة أسترالية أنها استحوذت على حصة تقارب 42 % من حصة ناميبيا من المعادن الحرجة التي تعد الأتربة النادرة جزءا منها، أما منجم ستينكامبسكرال في جنوب إفريقيا فيحتوي على واحد من أعلى درجات العناصر الأرضية النادرة في العالم.

اهتمام سعودي
وسط هذا السعي العالمي والتسابق الدولي في سوق الأتربة النادرة، يصبح التساؤل عن وضع العالم العربي ومكانته في هذا السباق سؤال هام ومشروع، وإذ تسعى الدول العربية وخاصة الخليجية منها إلى تعزيز وجودها في خريطة المعادن الحيوية والنادرة من خلال استكشاف الموارد المحلية والاستثمار في مشاريع التعدين الدولية، يدفعها في ذلك تقديرات دولية بأن الشرق الأوسط يحمل إمكانات واعدة كمورد عالمي للمعادن الهامة للتحول الدولي إلى الطاقة النظيفة.

لا شك أن الطريق لا يزال غير ممهد بالكامل فيما يتعلق بالجاذبية الاستثمارية والتكنولوجية لأسواق المعادن الأرضية النادرة في الشرق الأوسط أو الخليج العربي، لكن هناك وعي متزايد في مجموعة واسعة من الدول العربية بأهمية الثروة المعدنية ودورها المنشود في النهوض الاقتصادي بالمنطقة ومزيد من الاندماج في الاقتصاد الدولي.

تقف السعودية في مقدمة الدول العربية المدركة لأهمية أسواق المعادن ليس فقط من منطلق القيمة الهائلة لثروتها المعدنية، ولكن لأهمية تنويع اقتصادها بوصفه وسيلة أساسية للتنمية الاقتصادية، ويبدو الاهتمام السعودي بقطاع التعدين بارزا ومحوريا في خطة التنمية الاقتصادية لرؤية 2030 كوسيلة لخفض الاعتماد على الوقود التقليدي.

الدكتور إس. فيليب أستاذ الجيولوجيا في جامعة جلاسكو يرى أن الدول الخليجية ونتيجة الثروة النفطية لم تشرع إلا متأخرا في مرحلة الدراسات الاستكشافية لتقدير احتياطاتها الفعلية من المعادن وتحديدا العناصر الأرضية النادرة.

ويقول لـ”الاقتصادية” إن “العالم العربي ومنطقة الخليج في حاجة إلى مزيد من الاستكشافات بشأن ثروتها المعدنية، وبعض الدراسات إشارات إلى تقديرات بأن الموارد المعدنية السعودية تصل إلى 1.3 تريليون دولار، وأفادت تلك الدراسات أن منطقة غرب الدرع العربي السعودي تحتوي على معادن ثمينة مثل الذهب وأخرى مهمة مثل النحاس والحديد والكروم، كما أن الدرع العربي بصفة عامة يحتوي على عناصر أرضية نادرة، وبعض الدراسات أفادت أن الدرع العربي يحتوى على ربع الاحتياطي العالمي من التنتالوم الذي يستخدم في الصناعات عالية التقنية”.

ويضيف “حتى يكون لدينا خريطة دقيقة وتفصيلية عن الأتربة الأرضية النادرة في السعودية وشبه الجزيرة العربية فإن الإستراتيجية الخليجية القائمة على بناء شراكات إستراتيجية لاستكشاف واستغلال المعادن وتحديدا في إفريقيا تعد إستراتيجية مثمرة وناجحة وذات آفاق إيجابية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى