هل التصوف هو الحل ؟!
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
عندما أعلن الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي (17 يوليو 1913- 13 يونيو 2012) اعتناقه الإسلام عام 1982، وذاعت شهرته في العالم الإسلامي، أخذت الأنظار في داخل العالم الإسلامي وخارجه تتجه إلى ميراث التجربة الصوفية في الإسلام التي احتفى بها روجيه جارودي بشكل خاص، ووجد فيها جوهر الدين الإسلامي ومنهجًا يمكن أن يخطو بالإنسانية نحو تحقيق طموحاتها الكبرى في إقامة نظام حياة جديد يُؤسس على البعد الروحي المتسامي للوجود الإنساني، وعلى الدين كإيمان وتجربة روحية جوهرية، وليس الدين كنصوص حرفية وطقوس محددة.
وقد دفع هذا الاهتمام المتصاعد بالتصوف الإسلامي بعض المهتمين بالشأن الإسلامي في الداخل والخارج والمشتغلين بمركز البحث ورجال السياسة والأمن والاستخبارات- للنظر للتصوف كبديل مطروح في المجتمعات الإسلامية لجماعات الإسلام السياسي التي راعتها بعض الأنظمة العربية والمخابرات الأجنبية لخدمة أهداف سياسية معينة، ثم خرجوا عن الطريق المرسوم لهم واصطدموا مع هذه الأنظمة ومصالح الدول الكبرى في المنطقة.
وكان دافعهم إلى فكرة التوظيف السياسي للتصوف الإسلامي هو يقينهم بأن المجتمعات العربية مجتمعات متدينة، والدين فيها ركيزة أساسية لا يمكن تجاهلها أو الاستغناء عنها، ومن الممكن تسويق التصوف لهم لإشباع حاجاتهم الروحية، وإبعادهم في الوقت ذاته عن جماعات الإسلام السياسي والتيارات الدينية المتشددة.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تحولت تلك الفرضية إلى خيار تبنته مراكز أبحاث أمريكية وغربية كثيرة، ووضعتها موضع التنفيذ، ولهذا كثرت المؤتمرات والدراسات والأفلام الوثائقية التي تهتم بالتجربة الصوفية في الإسلام، وتُسوق للتصوف الإسلامي وانفتاحه على الآخر، وقدرته عند بعض رموزه على تجاوز التناقضات بين البشر والأديان.
ولا يخفى على أحد أن هذا الأمر كان توظيفًا سياسيًا نفعيًا جديدًا للدين، واختلاقًا لوهم جديد يتم الترويج له تحت شعار “التصوف هو الحل” لمواجهة الشعار التقليدي لجماعات الإسلام السياسي وهو “الإسلام هو الحل”.
وهو توظيف يجب رفضه انطلاقًا من قلب وطبيعة التجربة الصوفية ذاتها؛ لأن التصوف في حقيقته رؤية جوانية لله والكون والحياة والإنسان، وحالة شعورية وتجربة روحية ذاتية تؤثر في سلوك الإنسان وحياته، لكن يصعب تعميمها ونقلها بموضوعية للآخرين، وجعلها ركيزة للنهضة والتقدم وصنع الحضارة.
وقد أكد على هذا المعنى المفكر السوري محمد ياسر شرف في كتابه “جارودي وسراب الحل الصوفي” الذي صدر عام 1982، الذي حاول فيه تفنيد أبعاد الحل الصوفي لمشاكل الإنسان والعالم الذي دعا إليه روجيه جارودي، وتبنته من بعده جهات كثيرة في داخل وخارج العالم الإسلامي.
وتأسست وجهة نظر محمد ياسر شرف في رفض الحل الصوفي لمشكلات العالم الإسلامي والعالم المعاصر، وهو الحل “الذي يحسبه الظمآن ماءً، فإذا اقترب منه أصبح أثرًا بعد عين”، على عدم قابلية التصوف للتعميم بسبب بنيته الفكرية والتكوينية، وصلاحيته فقط كحل فعال في حياة الإنسان الروحية والشخصية الخاصة.
كما لا يخفى على أحد أن التصوف اليوم ابتعد كثيرًا عن مضمونه الروحي والفكري العميق الذي عرفه ماضي الإسلام، بعد أن صار في أغلبه دروشة وأخويات وطرق وجماعات مصالح لا علاقة لها بجوهر التصوف ومضامينه وأبعاده الفكرية وأهدافه التحررية التي تُخلص الإنسان من عبودية الأشياء المادية وتجعله لا يرى فاعلًا ورازقا في الكون إلا الله.
وبناء عليه، فإن شعار “التصوف هو الحل” هو شعار مرفوض لأنه اختلاق لأسطورة جديد في مواجهة أسطورة الإسلام السياسي التي كان شعارها “الإسلام هو الحل”، ولأنه خيار وشعار يُمثل توظيف سياسي جديد للدين يُعيدنا لنفس الدائرة المغلقة التي صارت في بلادنا متاهة لابد من الخروج منها، وهي متاهة خلط الدين بالسياسة وجعل الدين وقودًا يحترق لكي تدور عجلة السياسة، كما قال الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد.