منوعات

الجبرتي وبرج الحوت!

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يصنع تواتر أيام الحياة نمطا من الاعتياد الذى يسفر عن وجهين جد مختلفين، أولهما الألفة والتي تمنح قدرا من طمأنينة النفس تتأتى من حالة سير الأشياء والموجودات المختلفة من حولنا فى مدارات حركتها المعتادة، يتجلى فى مدركاتنا لها واطمئاننا لها بأنها فى موضعها الذى عرفناه صثم ألفناه نسبيا، وهو ما لا يثقل على أذهاننا وييسر من أفكارنا ولا يجهد حركتنا بشأن كيفية التعامل معها وإدارتها، وهو أمر يكتسب أهمية خاصة ومتزايدة لدى القطاعات التى تكبر فى العمر بدءا من مرحلة الكهولة حتى مرحلة الشيخوخة، وحيث غالبية من يتواجدون فى هاتين المساحتين العمريتين -خاصة فى الثقافة الشرقية – يتحلون بمنظور أن ما هو قادم ليس أهم ولا أكبر ولا أعلى فى تقييمه والاهتمام به مما قد فات، ويمكن تحليل ذلك فهما بإدراك معظمهم لأن ما فات هذا مضى وحمل معه زمن الفتوة والشباب وحيويتهما والقدرة على تحمل وإدارة ما يجلبه الواقع من مفاجآت وأيضا القدرة على تحمل نتائج نزق التفكير أو التصرف ثم شجاعة البدء من جديد.

الوجه الثاني للتواتر هو الاعتياد، وهو الخط المتوازي مع مسار الألفة وأحيانا يتقاطع معه تعارضا رغم القرب الظاهري لهما، فالاعتياد يصنع مع الوقت ذهنية الملل، حين تدور عجلة الأيام وأحداثها بفعل التكرار وتكرار التكرار، فتغيب رويدا دهشة ما يستجد نسبيا أو ما يتم إدراكه بكونه جديدا هكذا وتغيب فرحة أوائل التعرف على الأشياء من حول الفرد وأوائل تجربتها والاستمتاع بها، هذا الاعتياد يسير مع الألفة ويصنعان مفهوم التواتر ويشكلان جوهره.

لكنهما معا الألفة والاعتياد يشكلان مع العمر ما يمكن تسميته مسطرة مضى الحياة صعودا زمنيا مجتمعات وأفراد، حالة تستقر وجدانيا ثم تسري بتلقائية ندركها حين يبدأ ميقات كل يوم وفق منظومة حسابه المتعارف عليها كونيا والتى يرتضيها البشر قياسا منذ بدء الثانية الأولى من ساعة ما بعد منتصف الليل، ثم ليحمل كل يوم فى طياته ترادفا كونيا عظيما متمثلا فى طلوع الشمس وغروبها، ومعه ترادف فصول العام بين حر وبرد وما بينهما من خريف وربيع. وهنا كتب عمر الخيام مترجما له أحمد رامى وغنته أم كلثوم: “فكم توالى الليل بعد النهار وطال بالأنجم هذا المدار”. فى تعبير فذ عن ظاهرة الحياة وسياقات مرورها وإحساس الفرد بها.

ومثلت كتابات الجبرتي حيزا مبدعا فى هذا الصدد فى مجال حولياته الزمنية للوقائع والأحداث وعجائب الأخبار وتأريخه لها عبر السنوات والشهور والأيام، فهو يجمع ويوثق الوقائع والأحدث التى تقطع مجرى العادى من تواترات الأيام وتكرارها، ثم نجده عندما تمر شهور وأيام فى حولياته لا يجد ما يمكن توثيقه من وجهة نظره كوقائع جديرة بذلك يلجأ الى صياغة مبدعة دالة: “ودخلت سنة كذا”. قافزا على شهورها وأيامها الخالية من حوادث ووقائع تستحق التأريخ من وجهة نظره، أو أن يقول: “وحل شهر صفر وفي الثالث منه حصل كذا”. قافزا على أول أيامه وثانيها، فى فقرة أو جملة مقتصدة لغويا، ثم أحيانا يستجدي الحوادث وقوعا ليجد ما يكتبه فيقول: “دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف، واستهل المحرم بيوم الخميس الموافق الرابع عشر أمشير القبطي سابع شباط الرومي، وفي ذلك اليوم انتقلت الشمس لبرج الحوت”!. وهكذا وفقط.

ربما تكمن هنا تحديدا إشكالية الاعتياد والتكرار التى أدركها المثقفون الأوائل عبر القرون وسطروه فى كتاباتهم، ثم انتقلت بتأثير مظاهر “العصور الحديثة” بتعبير شارلي شابلن لتشمل الجميع تحت مظلتها، ارتباطا بما صنعته المدنية الحديثة وعناصرها من بنية اتصالية وسعت من تعرف البشر بشكل أوسع وأسرع على الوقئع من حولهم، فوحدت -رغم كل التعدد الظاهر جغرافيا وثقافيا للمجموعات البشرية شعوبا ودولا – الجميع فى أنماط محدودة من التوجهات والتفضيلات وحيث كان للميديا الأثر الأكبر فى بناء ذلك ونقله وتعميمه، فصارت هناك توجهات ومدركات نمطية رئيسية وأخرى فرعية محدودة العدد يمكن دراستها وقياسها واستخلاصها.

ويقول الجبرتى فى وعي مبكر بذلك يعبر عن إدراكه لغرض الكتابة بأن النص لا يتححق حضورا إلا بتلقيه والتفاعل الجماهيرى معه، ونعرف منه ومبكرا إدراكه لكونه يكتب نصا فى سياق اجتماعى لجمهور محدد، ومن ثم عليه أن يفهم طبيعة الجمهور وتفضيلاته واهتماماته وكما ورد ذلك تعبيرا ضمنيا مبدعا فى تاريخ عجائب الآثار تفسيرا لما انتقاه وأورده من حوادث ووقائع: “والسبب في ذكر مثل هذه الجزئية شيئان الأول وقوعها في غير زمانها لما فيه من الاعتبار بخرق العوائد… والثانى الاحتياج إليها فى الوقائع العامية؛ فإن العامة لا يؤرخون غالبا بالأعوام والشهور سوى بحادثة أرضية أو سماوية خصوصا إذا حصلت فى غير وقتها أو ملحمة أو معركة أو فصل أو عام مرض”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى