منوعات

قسوة «المراكب الورقية بيننا»

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

«لقد أمضيتُ 17 عامًا من حياتي وأنا أصنع مراكب ورقية والتحدث إلى «جاي» عبرها، ولديَّ ذلك الإيمان بأنه ربما يكون مستمعًا. لقد قضيتُ 17 عامًا من حياتي معتمدةً على المراكب الورقية بوصفها مصدر الصلة الوحيد الذي كان لديَّ مع «جاي»؛ باعتباره الأمنية الوحيدة التي رغبت فيها.

«إلا أن المراكب الورقية لم تعد أمنية أنتظر أن تصبح حقيقة. إنها واقع الآن؛ واقع جميل تمكنت من عيشه والاستمتاع به كل فترة مع جميع الأشخاص الرائعين المحيطين بي. لم تعد تضايقني أفكاري الخاصة لأنني الآن حين أنظر إلى المراكب الورقية، لا أود الحديث إلى «جاي» عبرها حول ما كنت أريد دائمًا، ولكنني أتمكن من عيش ما يرقد تحتها؛ تحت المراكب الورقية التي كانت يومًا بيننا» (ص 376).

بهذه العبارات الدالة والمشاعر الدافئة، تختتم رنا محمد حسان روايتها الأولى الصادرة باللغة الإنجليزية تحت عنوان The Paper Boats between Us «المراكب الورقية بيننا» (دار المعارف، 2023).

في سيرورة التحولات الدرامية والمآسي التي تشهدها الرواية، تقع أحداثٌ أكثر مأساوية أو ما يمكن وصفه بـ«صدام العتبات». هنا ترسم الروائية واحدةُ من ذُرى الرواية والنص بحبر المرارة.

الرواية ذات الغلاف الأزرق الأنيق لمراكب ورقية وسط أمواج البحر (تصميم: سامح الكاشف) حافلة بحكايات حميمة، ولمحات ذكية عن سوسيولوجيا الناس وثقافاتهم وهوياتهم المُتصارعة، أمس واليوم. يفيض النص بأسماء مثل «ديلان»، و«آمي»، و«أوليفر» و«ديانا»، الأبطال الرئيسيين لرواية رنا محمد حسان، التي تنقسم إلى 46 فصلًا -يحمل كلٌّ منها اسم أحد الأبطال- وتقع في 378 صفحة من القطع المتوسط.

تستحق الأسماء الأجنبية -وهي ملاحظة قد تؤخذ على الروائية الشابة- وحدها وقفة وتأمل، فكل منها يروي جزءًا من الحكاية. يبعث هذا كله حياة حقيقية روادها بشر نراهم ونعيش معهم، تواقيعهم هي روح الرواية وجوهرها.

تتدفق الأحداث في الرواية، من خلال رصد كيفية تعامُل «ديانا» -وهي في مقتبل عمرها- مع تجربة قاسية وصعبة للعثور على عائلتها بعد أن افترقت عنهم في ظروف غامضة في طفولتها. وخلال تجربة البحث المريرة عن أسرتها تمر بأحداث متباينة، ما بين أسرة بديلة لم تكتمل عواطف أفرادها تجاهها، والحلم الذي لم يغب عنها بلقاء أسرتها الحقيقية.

لعل أجمل ما في الرواية هو تماسك بنيتها، إلى جانب هذا النزوع إلى امتشاق لغة الجمال بانخطافات وجُملٍ شديدة العذوبة والصدق، كما لو أنها تسعى إلى انتشال شخوص العمل -وربما القراء أيضًا- من حالة الحيرة، وتحفيزهم على البحث في دواخلهم عن أنوار الطمأنينة.

ولعل ما يُحسَب للروائية هو نجاحها في استهلال روايتها بمشهد يحبس الأنفاس: محاولة انتحار. تقف البطلة «ديانا» بحذر على الكرسي بعد أن ربطتْ الحبال إلى مروحة السقف «وتأكدت أن عقدة الحبل وساعة بما يكفي لتناسب رأسي» (ص 9).

نقرأ:

«كانت رؤيتي ضبابية وأنا أحدق في المنضدة، وعيناي تتفحصان على نحوٍ سيء الرسالة التي تركتها ليقرأها أي شخص عندما أرحل.

«أرحل للأبد

«لا أستطيع أن أحتمل هذا بعد الآن. لقد خذلني هذا العالم بكل الطرق الفظيعة الممكنة، وكل من قابلته.. جميعهم قتلوني من الداخل. لم أعد أشعر بالحياة. أنا مجرد روح مثيرة للشفقة عالقة في جسد ضعيف. أنا لست أكثر من مجرد كائن غريب» (ص 9).

في هذه اللحظة تتذكر «جاي»، الذي نبدأ في التعرف إلى أهميته بالنسبة لبطلة الرواية التي تحفل بالإيقاع السريع اللاهث.

حتى اللحظات التي تلي ذلك مع طرقات على باب غرفتها لا تخلو من تشويق:

«دق قلبي بقوة في صدري عندما سمعت ثلاث طرقات متتالية على الباب في غضون ثوان. تجمدت في حين لففتُ ذراعي حول جسدي مرة أخرى من الخوف.

أرجوك، ارحل

انتظرتُ أن يذهب من بالخارج، عندما سمعت فجأة صوتًا أجش لرجل.

«مرحبًا، أنا آسف جدًا لأنني لم أقصد كسر زجاج نافذتك» (ص 11).

تسرد الروائية الشابة بأسلوب رشيق يجمع بين الحكي والسرد والحوار مواقف مؤثرة، وكيف عاشت بطلة الرواية حياة افتراضية مع عائلتها، وكيف كانت رسائلها عبر المراكب الورقية أداة الوصل الوحيدة التي تنقلها من العزلة والانطواء وفقدان الأمل عبر مناجاة شقيقها وأمها وأبيها حتى ولو تاهت سطورها بين الأمواج.

يُلاحَظ القارئ أن المكان والزمان مغيبان عن الفضاء الروائي بتفاصيلهما في هذه الرواية ليكونا إطارًا عامًا فقط، وهو أمر طبيعي نظرًا لأن الرواية لا تلتزم بالتقنيات السردية البحتة.

ثمة أفكار مبثوثة بين ثنايا المتن الروائي حول الحُب وحول العلاقات الإنسانية عمومًا وحول المرأة، تمنح الرواية جماليات إضافية.

«المراكب الورقية بيننا» رواية المعاناة الذاتية العاطفية المستندة إلى أوجاع الفقد والتشتت وضياع البوصلة، مع أن ومضات الأمل تظل قائمة في الرواية، كما في حالة البحث عن شخصية «جاكوب»:

«جاكوب» حقيقي.. وأنا ما زلتُ بحاجة إلى العثور عليه» (ص 241).

الحُبُّ والهرب هما القاسم المشترك بين الخطوط الفرعية كلها في العمل الروائي، لكن المشكلة تكمن في أن الحُبَّ يُنسي الألم في الوقت الذي يخلق فيه ألمًا جديدًا خاصًا به.

تقول «ديانا» في أحد مقاطع الرواية:

«لقد بكيتُ حرقة عندما تركتُ «أوليفر» على عتبة الباب وركبت السيارة. لم يسألني أبي أبدًا عن السبب وراء دموعي وكنتُ سعيدة لأنه لم يفعل ذلك لأنني لم أكن أعرف ذلك حقًا. ماذا فعلت للتو بحق الجحيم؟ لماذا أخبرته بتلك الأشياء؟ لماذا تركته يذهب بهذه السهولة؟ بعد كل ما فعله من أجلي؟ أنا فقط… لم أستطع أن أعطيه كل هذا الألم. إنه يستحق شخصًا أفضل مني. أنا فقط جعلته حزينًا. لقد أظهرتُ له فقط جانبي المظلم. غضبي، ودموعي وبؤسي، رغم أنه يستحق التقدير والمحبة. لم أرغب أبدًا في كسر قلبه، ولكن إذا بقيت معه فسوف أجعل حياته أسوأ» (ص 247).

اللافت للانتباه أن الروائية رنا محمد حسان، أصدرت هذه الرواية وهي طالبة في العام الدراسي الأخير لها في كلية الألسن ــ جامعة عين شمس، ومن الواضح أن دراستها اللغتين الإنجليزية والإسبانية ساعدت في صقل موهبتها وتمكنها من رسم ملامح أبطالها وتقديم سرد شائق ومُحكم في هذا العمل الممتع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى