منوعات

صورة واحدة بين صور

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كانت الصورة المتفردة هي وحدها التي أبقت حرب ڤيتنام في الذاكرة العامة للشعوب ، ولا تزال صورة الطفلة الڤيتنامية الشهيرة حية في كل ذاكرة ، ولا نزال نذكر منظرها وهي تفر هاربةً من قنابل النابالم التي كان الأمريكيون يضربون بها بلادها .

كانت الطفلة الخائفة المرعوبة تفر مع آخرين من المواطنين الڤيتناميين ، ولكن ما جعل صورتها هي وحدها تعيش ، أنها كانت تجري عارية من ثيابها ، وكان ملامح الفزع على وجهها كافية للتعبير عما كانت تحسه وهي تبحث عن مهرب في أي مكان .

وفي مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ، سوف تعيش صور كثيرة ، وسوف تكون كلها معبرة عما عاشه القطاع من قتل ، وتدمير ، وتشريد ، في أيام ما بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ .

وليست هناك صورة محل إجماع في هذا الإتجاه حتى الآن ، رغم عشرات وربما مئات الصور التي خرجت من القطاع وصورت حجم الأهوال التي عاشها .. ومن شدة ما تعرض له قطاع غزة ، فإن صورته على بعضه من الشمال عند بيت حانون ، الى الجنوب عند خان يونس ، يمكن أن تكون صورة جامعة شاملة لما توالى عليه من ضربات منذ بدء الحرب على المدنيين فيه .

ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك صورة فريدة من نوعها ، بحيث تطل عالقة في الأذهان لا تفارقها مهما تقادم بها الزمن .. تماماً كصورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي كان يحتمي هو وأبوه وراء حاجز أسمنتي ، ورغم ذلك ، فإن رصاصات الإسرائيليين الغادرة لم ترحمه وهو يختبيء في مكانه خلال انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠ .

وفي يوم الخميس ٢٣ من هذا الشهر نشرت وسائل الإعلام صورة لا بد أنها سوف تبقى محفورة في عقل كل شخص رآها ، وسوف تظل في وجدانه تقاوم النسيان ، وسوف تعيش علامةً على ما عاناه المدنيون في أنحاء القطاع من شماله الى جنوبه .

كانت الصورة لمقبرة جماعية أعدها الفلسطينيون في وسط غزة ، وكانت المقبرة تضم ١١١ جثمان لفلسطينيين سقطوا شهداء في مجمع الشفاء الذي اقتحمه الإسرائيليون ، وفي مستشفى آخر كان قريباً من مستشفى الشفاء الشهير .

كان جنود الإحتلال قد احتجزوا الجثامين بعد استشهاد أصحابها ، وكان الجنود قد فعلوا ذلك لأن قيادتهم كانت تريد إجراء فحص الحمض النووي على الجثامين ، لتعرف ما إذا كان بين الشهداء عناصر من حركة حماس أم لا ؟

وحين تأكدوا من أن الجثامين لفلسطينيين عاديين ، وأنها لمدنيين من آحاد الفلسطينيين ، أفرجت عنها وسلمتها للصليب الأحمر الدولي ، الذي سلمها بدوره لوزارة الصحة الفلسطينية ، فقامت بحفر المقبرة الجماعية ، ووضعت الجثامين فيها مرصوصة الى جوار بعضها البعض .

كانت الجثامين موضوعة في أكياس زرقاء ، وكانت مربوطة من عند الرأس والقدمين ، وكان المنظر مهيباً رهيباً بقدر ما كان مؤلماً، وكان كل جثمان يتمدد إلى جوار الآخر ، وكان لسان حالها جميعاً أن هذا ما فعلت حكومة بنيامين نتنياهو بأهل القطاع .

هذه صورة ليس من السهل نسيانها ، لأنها تتكلم وحدها وبلسانها ، ولأنها أقوى من كل الكلام ، ولأنها صورة من بين صور لما جرى في قطاع غزة .. فإذا كانت هذه صورة واحدة ، فإن لنا إذا ضممنا الصور كلها معاً في إطار واحد ، أن نتخيل مقدار ما وقع على المدنيين في القطاع من عقاب جماعي على جريمة لم يرتكبها أحد منهم !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى