منوعات

القزوينى متأملا غرائب المخلوقات والموجودات .. المقدمات والظواهر

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

“وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى، وإنما سقط التعجب هنا للأنس وكثرة المشاهدة”. هكذا يبدأ القزوينى فى مقدمة نصه الملفت موضحا طرائق النظر للكائنات والظوهر معا، ثم كيف تصنع ألفة الأشياء اعتياد ما فيها من غرائب وعجائب وفق تعبيره.

هو نص يبعث فى النفس عند تأمله فكرة مهمة تخص كيف تكون مبادرات الكتابة لدى البعض تفردا وإبداعا خالصا، وكيف تحلق الأفكار المبتكرة فى خصوصيتها، ثم كيف يستمر ذلك كله تراثا وزادا ممتعا استعادة عندما توضع فى سياق تاريخها وزمانها لنستدل منها على الظواهر وطرائق الفكر كما تصورها أهل زمانها وعبر عنها نخبة مفكريهم، وهكذا فعل أبو يحيى زكريا القزوينى فى كتابه المعنون: “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” وسنقوم بنوع من التصفح ثم التوقف لالتقاط فيوضات النص تلك التى تظهر واضحة حينا أو تتدفق ضمنا بين متون الكلام يبلورها نظر ورأى وحكمة مثقف موسوعى اهتم بالتاريخ والعلوم والجغرافيا وغيرها ثم – كما يثبت محتوى النص – امتلك رؤية منهجية فى الانتقاء والتقديم والعرض تؤسس لطريقة علمية مبكرة تكاد تكون ناضجة فى الربط بين الظواهر ومسبباتها وآليات تكونها.

والنص يرجع زمن تأليفه للقرن السابع الهجرى/ القرن الثالث عشر الميلادى وهو يخص تصور مرحلة من تاريخ العلم وتاريخ تطور النظرة العلمية للكائنات، يصحبه عدد من الرسوم البهية المنظر، ملونة بديعة فى نسخه المخطوطة المتاحة على شبكة الإنترنت نقلا عن أرشيف مكتبة برلين وعدد من النسخ المنقولة عنها، وقد ولد القزوينى أوائل العقد الأول من القرن السابع عشر الهجرى وتوفى فى ثمانيات ذات القرن، وقد عمل قاضيا فى العراق ودفن بها.

وتضمن النص مقدمة ثم جزأين موضوعيين أحدهما سماه بالعلويات والآخر بالسفليات ويعنى بهما معا مظاهر الكون وعناصره من مخلوقات وكائنات وموجودات تلك التى تدب فى الأرض أو تلك التى تحملها نطاقات السماء.

ويبدأ القزوينى نصه سخى الإمتاع بشئ صار من مقتضيات وطبائع الكتابة العلمية المعاصرة وهى تعريف المفاهيم التى تؤسس للمعنى المشترك بين الكاتب وجمهور القراء، يبدأ أولا فيعرف لنا نفسه وفق ما أحب وأراد :”العبد الأصغر زكريا بن محمد بن محمود القزوينى تولاه الله بفضله وهو من أولاد بعض الفقهاء الذين كانوا موطنين بمدينة قزوين وينتهى نسبه إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم”. فكأنما أراد هنا أن يجمع ويؤسس تعريفا بالجذور أصلا إسلاميا عربيا وأصلا آخر بالمولد جغرافيا لا زال يعلق بإسمه “قزوينى” فى ضفيرة تقديم واحدة.

ويقدم تفسيرا لمجال الكتاب وأسباب اشتغاله على فكرته بأنه: “وكنت مستغرقا بالنظر فى عجائب صنع الله تعالى فى مصنوعاته(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) ويكمل أنه ليس مراد من النظر تقليب الحدقة نحوها فإن البهائم تشارك الإنسان فيه، ومن لم ير من السماء إلا زرقتها ومن الارض إلا غبرتها فهو مشارك للبهائم فى ذلك وأدنى حالا منها وأشد غفلة، ثم ينتهى بغايات النظر المتأمل المتفكر ويقدم عائد المعرفة والفكر بأن هذا النظر فى رأيه: “سبب اللذات الدنيوية والسعادات الأخروية” .

وفى مقدمته يظهر الأساس المرجعى الدينى لمنطلقات تدبر ورؤى وتصورات وتفسيرات القزوينى واضحة أراد ن يثبتها وضوحا دون لبس، كما يظهر فى المقدمة مجالا آخر يمنح دلالة مهمة، ربما تكون تعبيرا واستمرارا لتقاليد حكمت عمل نخبة العلماء والفنانين بل والموسيقيين فى مختلف بقاع جغرافيا الكون وعبر تاريخه، قبل نشوء الصناعةوالتسويق الجماهيريين المعاصريين للإنتاج الفكرى والتى أتاحت مواردا مادية مستقلة لصناع المحتوى الفكرى، حيث قبل ذلك ظلت تقاليد الارتباط بالأمراء والأرستقراطية والأثرياء عنصرا مؤسسا ولا زما لاستمرار تدفق الانتاج النخبوى الفريد عبر القرون السابقة، والتى شكلت مقوما لرعاية الفنون والآداب والعلوم مكنت لها رفاهية مجتمعية على مستوى المجتمع ككل وعلى مستوى تواجد نخب تهتم بالفنون والآداب أن ترعى وتدعم حالة تفرغ المشتغلين بها، وهو تعبير عن اكتمال نمو حضارى تظهر فى المجتمعات عبر مختلف العصور وتعبر عن نفسها عند مرحلة من نضج اكتمال مقومات الرفاهية وتلازم تقدم العمران والمعايش، وهكذا لا ينسى أن بريط المؤلف نصه بالجهة الراعية والداعمة التى تكفل قيام واستمرار عمله: “فقد حصل لى بطريق السمع والبصر والفكر والنظر حكم عجيبة وخواص غريبة فأحببت أن أقيدها لتثبت وكرهت الذهول عنها مخافة أن تفلت، وقد كثرت على عواطف المولى الصاحب الصدر الكبير العادل المؤيد المظفر، شمس الدولة ظهير الملة علاء الدين عماد الإسلام نظام الملك غياث الأمة عطاء الملك بن محمد بن محمد .. فخدمت بهذا الكتاب مجلسه الرفيع شكرا لأياديه السابقة وقضاء لحقوقه اللاحقة، ورجاء أن يتخلد اسمى بتخليد ذكره الشريف ويتأيد وسمى بتأييد عزه المنيف”.

ثم يمضى القزوينى ليقدم تعريفا بمحتوى النص ومنهجه فى التأليف يبرر به ويوضح محتواه، ليؤكد على الجمع بين الواقعى والمتصور، ضفيرة العلم والمتعة معا: “وجميع ما فيه إما عجائب صنع البارئ تعالى، وذلك إما محسوس أو معقول لا ميل فيهما ولا خلل، وإما حكاية طريفة منسوبة إلى رواتها لا ناقة لى فيها ولا جمل، وإما خواص غريبة وذلك مما لا يفى العمر بتجربتها”.

وهو يتوقف تريثا كأنما ليبرر ويفند ما قد ينسبه البعض له من عرض مفارقات وعجائب يرونها غير منطقية أو غير مستدل عليها أو قد تفارق استدلالا عقليا منطق بالقول طارحا مثالا دالا يطلقه ليكون شمولا على بعض ما أورده فى محتوى النص: “وحسبك ما ترى من حال المغناطيس وجذبه الحديد فإنه إذا أصابه رائحة الثوم بطلت تلك الخاصية فإذا غسلته بالخل عاد إليه، فإذا رأيت مغناطيسا لا يجذب الحديد فلا تنكر خاصيته فاصرف عنايتك إلى البحث عن أحواله حتى يتضح لك أمره”.

ويؤسس القزوينى لمفاهيم الكتاب كما أوردها فى عنوانه بالتقديم الواثق: “وسميته عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ولابد من ذكر مقدمات أربع فى شرح هذه الألفاظ ليتبين منها مقصود الكتاب”، فيقول فى شرح مفهوم العجب أنه حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشئ أو عن معرفة كيفية تأثيره فيه، وفى شرح المخلوقات أن “المخلوق هو كل ما غير الله سبحانه وتعالى وهو إما أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير، وفى معنى الغريب “كل أمر عجيب قليل الوقوع مخالف للعادات المعهودة والمشاهدات المألوفة، وذلك إما من تأثير نفوس قوية أو تأثير أمور فلكية أو أجرام عنصرية كل ذلك بقدرة الله تعالى وإراداته، فمن ذلك معجزات الأنبياء كانشقق القمر وافلاق البحر وانقلاب العصا ثعبانا وكون النار بردا وسلاما وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ومنها كرامات الأولياء الأبرار فإن تأثير نفوسهم يتعدى إلى غير أبدانهم حتى يحدث عنها انفعالات غريبة فى العالم”.

ويتطرق القزوينى إلى تقسيم الموجودات: كل موجود سوى الواحد سبحانه يكون مخلوقا، وكل ذرة من جوهر وعرض وصفه موصوف فيها غرائب وعجائب يظهر فيها حكم الله تعالى وقدرته ( ويخلق ما لا تعلمون)، ويقسمها إلى ما لايدرك بالبصر كما العرش والكرسى والملائكة والجن والشياطين وغيرها فمحال النظر فيها، ولا يمكن أن يقال فيها غير ما صح بالنصوص والأخبار والآثار وإما المدركات بالبصر كما السموات والأرض وما بينهما.

ويعرض القزوينى فى مقدمته بعضا من تلك الغرائب والعجائب كأنما يرصد ويؤرخ ويوثق لبعض ظواهر الكون وقتئذ عبر ما عايش وعاين أو سمع وقرأ، وحيث لم يتم فهمها فى حينها ولا تفسيرها ونرى بعد زمانه أن بعضها لازال يمثل حالة كونية مستمرة لا زلنا نعاين بعض ظواهرها تكرار فى جغرافيا الكون وطقسه المعاصرين عالمنا المعاصر، يقول القزوينى:”ومن ذلك سقوط جسم من الجو كما ذكر الشيخ الرئيس (ابن سينا) أنه سقط فى زمانه بأرض جوزجان جسم قطعة حديد فأرادوا كسرها فما كان يعمل فيها الحديد البتة، ومنها سقوط ثلج أو برد فى غير أوانه من هذا ما حكاه الجاحظ أنه نشأت سحابة بين أصبهان وجوزستان تكاد تمس رؤوس الناس وسمعوا منها كهدير الفحل، ثم إنها دفعت بأشد مطر ثم استسلموا للغرق، ومن ذلك أمور أرضية مثل صيرورة البحر يبسا واليبس بحرا، ومنها ظهور معدن ببعض الأصقاع لم يعرف قبل ذلك من الزمان ومنها ظهور معدن الذهب عند الإسماعيلية، ومنها وقوع خسف بناحية من الأرض وخروج ماء أسود منها وقد شوهد ذلك فى نواحى كثيرة ومنها مدينة عنجرة بأرض الروم وقية دركزين من أعمال همدان ، ومنها زلزلة تبقى شهرا أو أكثر فى بعض النواحى وقد شوهد ذلك بأرض نيسابور والرى، ومنها ظهور نبت بأرض لا عهد للناس بوجوده هناك ومنها تولد حيوان غريب الشكل لم يرى مثلها”.

وينتهى تقديم القزوينى المفصل بأن ينبه أسماعنا ويشوق نفوسنا لقدر من تلك الغرائب والعجائب ظواهر عرفها معاينة او قراءة أو استماعا أو نقلا يحملها تفصيلا فيما يلى سردا من نصه بالقول: “أمور غريبة تحدث فى قوى سماوية مخصوصة بأشكال وهيئات وأمور غريبة تحدث من أجساد أرضية … وهذا هو القول الكلى فى الأمور الغريبة وسيأتى الكلام فى جزئياتها إن شاء لله تعالى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى