غير صالحة للنشر!
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
كتب– سمير محمود:
“لا يُنشر” هو عنوان كتاب الأديب الكاتب الصحفي بالأهرام الأستاذ محمد شعير، بغلاف بديع من تصميم الفنان علاء نصار كبير المخرجين الصحفيين بمصر والإمارات العربية المتحدة، الكتاب هو وجبة دسمة جدًا من داخل المطبخ الصحفي المصري، بصحفه القومية والخاصة والمسماة مجازًا بالمستقلة، وقد صدر الكتاب بالقاهرة قبل نحو خمسة عشرة سنة، ليرصد فيه مؤلفه بصدق ألوانًا من الرقابة بطعم ورائحة قيود النشر أكثر من معايير النشر، ويبقى قانون زحام الصفحات وترهل المؤسسات الصحفية وازدحامها بالبشر، أبرز القيود التي تحول دون أن ترى بعض المواد الصحفية النور، وتأخذ طريقها للنشر، من باب الجودة والتميز، لكن هيهات، وتبقى الحرية ومعها الكفاءة والمهارة والتميز والإجادة، صانعة أشهى الوجبات الصحفية على الإطلاق في مصر والعالم.
الكتاب تحول بقدرة المؤلف إلى صحيفة عنوانها “اشتباك” تضم أعمال صحفية غير صالحة للنشر، وبالتالي ما أصدره المؤلف وجمعه بين دفتي كتاب، هو العدد الأول والأخير من اشتباك صحفي جدير بالقراءة والاهتمام وإن سلط الضوء على فترة التسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة!
يستعير شعير مقولة أستاذنا الكاتب اللبنانى جهاد الخازن إنه “ليس كل ما يعرف يكتب”، وذلك ضمن بابه اليومى بجريدة الحياة اللندنية «عيون وأذان، ويطورها إلى مقولة أخرى تخدم موضوع كتابه وتتسق مع حال العمل الصحفي فيقول: “ليس كل ما يُكتب ينشر»، ولا ينطبق ذلك فقط على الحالات التي تتعارض فيها المواد المكتوبة مع السياسة التى تتبناها الصحيفة وتدافع عنها وهو ما يعرفه القارئ العادى بسهولة، ولكن فى حالات أخرى عديدة، الأسباب مختلفة، يتداخل فيها الشخصى بالموضوعى إلى درجة مرعبة بشكل عام، فهناك دائماً آخر» – بخلاف المحرر الذي يكتب الخبر أو التقرير أو التحقيق أو التحليل – يحدد ما ينشر، وكيف ينشر، هناك دائماً آخر، يكتب مقدمة الموضوع، ويغير خاتمته يحذف أسئلة ويختصر إجابات.. ذلك الآخر هو المسئول عن التحرير لا المحرر الذي تنتهي مهمته القديمة عند تقديم المحتوى الذي كتبه.
قانون الزحام
لا يقدم محمد شعير بلغته الأدبية الساحرة، كتابًا أكاديميًا في معايير النشر وفنون الكتابة الصحفية، وسبل المنح والمنع، وأساليب التحايل إلى حد الاحتيال في سبيل مشر الأخبار والتقارير الصحفية، هو من البداية، يقدم خلاصة تجربة فيها من الطزاجة والانتصارات والانكسارات ما يفوق الكتابات الأكاديمية الرصينة، وما يبرر ويفسر الجملة السخيفة التي يسمعها أي خريج حديث أيًا كان مجال دراسته:” انس اللي درسته كله، الدراسة حاجة والواقع والممارسة والشغل حاجة تانية خالص”!
تزدحم الصحف بالبشر ويحكمها قانون الزحام، زحام المواد الصحفية التي تتصارع من أجل النشر، وفي هذا يقول المؤلف:
وقد يبدو للوهلة الأولى أن تلك الحالة من الزحام داخل الصحف لا بد أن تنتج أرقى أنواع العمل الصحفى، باعتبار أن المواد المقدمة للنشر بالمئات والكثير منها لا يتم نشره لا لسبب يتعلق بهامش الحرية أو عدم الجودة، وإنما فقط لأنها بالفعل لا مكان لها، وبالتالى فإنه من الطبيعي أن يكون المنشور فى الصحيفة هو المُنتخب من بين كل تلك الأعمال.. وهو ما ينبئ بصحافة شديدة الرقى باعتبار حدة التنافس التي تسبق صدور الصحيفة. لكن قانون الزحام ليس كذلك.
في الزحام.. يفوز عادة الأقوى أو الأدهى لا الأفضل. هب أن حشداً من البشر تجمعوا فى مساحة ضيقة منتظرين فرصة للعبور عبر فتحة صغيرة، فمن الذى سيفوز؟ لا شك أنه الأقوى بنيانا الذي يستطيع أن يزيح الآخرين عن طريقه أو الشخص واسع الحيلة الذي يتحرك بخفة فيتمكن من قطع مسافة ما نحو البوابة، ثم يداعب أحد الواقفين أو يغريه بشيء وهمى فيسمح له بالمرور وهكذا حتى يصل.. أما الأفضل فربما تدهسه الأقدام دون أن يشعر به أحد.
وفي الصحافة أيضاً كذلك.. سواء بالنسبة لعبور البوابة إلى عالمها للمرة الأولى أو بالنسبة للنشر فيها، وقد قلنا من قبل إن عملية الدخول الأولى تشهد صراعاً بين وساطات الكبار يفوز فيها بالطبع الأقوى نفوذا أو الأكثر اتصالا بمسئول التحرير، وكذلك بالنسبة للحصول على فرصة للنشر.
تحايل لدرجة الاحتيال
القوة والدهاء أو الاحتيال. القوة تتمثل هنا في مدى قوة المحرر لا قوة وأهمية المادة الصحفيه التي يكتبها، وقوة المحرر ترتبط بعوامل عديدة أهمها قوة علاقته بمسئول التحرير ومدى نفوذه داخل الجريدة، فضلًا عن قوة المصدر الذي يغطيه.
ويضيف المؤلف: فى الصحافة القومية على وجه التحديد لا ترتبط قوة المصدر، بكونه المصدر الأكثر دقة فى معلوماته أو صاحب التسريبات المهمة للصحفي، بل ترتبط في الأساس بأهميته السياسية وهكذا فإن المحرر الذي يغطي أخبار رئاسة الجمهورية أو وزارة الداخلية أو مجلس الشعب ليس كزميله المسئول عن تغطية أخبار وزارة البيئة أو هيئة الصرف الصحى، فالأول يكون المكان الطبيعى لنشر ما يجلبه من بيانات صحفية أو تغطيات لمؤتمرات صحفية لمسئولين هو الصفحة الأولى، أما الثاني فإنه حتى لو حصل على انفراد مهم من مصدره فإن قلبه يظل معلقاً حتى صدور العدد الجديد من الجريدة لمعرفة ما إذا كان الخبر قد أبصر النور من الأساس أم دخل فى قائمة المؤجلات، تلك هي القاعدة وماعدا ذلك استثناءات.
طاقة نور
لا يقدم شعير نظرة سوداوية لواقع صحفي مترهل، يعاني الآن ذبولاً وتضييقًا أكثر عشرات المرات عما كان عليه وقت إعداد كتابه قبل نهاية عهد الرئيس مبارك وتحديدًا في 2008، وإنما ينقل بصدق وواقعية وموضوعية تجربته بحلوها ومرها فيقول:
والحق أننا كثيراً ما نُشرت لنا موضوعات على مساحات كبيرة وسمعنا كلمات الإطراء عليها من الزملاء، إلا أن داخلنا كان يغلى بسبب تغيير مدخل الموضوع أو حذف جملة .. ناهيك عن العناوين.. وفي بعض الأحيان ولكن نادراً، يأتى التعديل على الموضوع ليضيف إليه ويجود أسلوبه بحق وهنا فإننا كنا نحزن أيضاً ولكن حزن الخجلان من نفسه لأنه تم وضع اسمه على مادة صحفية مستواها يفوق مستواه، وقيمتها كنص لم يكن بمقدوره إدراكها.. لكننا نتعلم.. ولا نستنكف عن أن نضيف إلى معارفنا اللغوية والأسلوبية كل يوم شيئاً جديداً، مع كل سطر نقرأه في صحيفة أو كتاب، تلك مهنتنا ومتعتنا في آن، سعادتنا فى أن نستنشق عبير الكلمات، ونرشف حلو العبارات والمعاني نختزنها فتتفاعل بداخلنا مع ما سبقها حتى نصل إلى أنسب الأساليب وأقربها إليك يا سيدي.. أيها القاري.. الذي معه وحوله يدور الكتاب.
خيارات سياسية
يتعمق الكتاب أكثر في تقنيات وفنيات الكتابة واللغة والحس السياسي، فيقول من واقع أحد حواراته مع عالم اللسانيات التونسي الدكتور عبد السلام المسدي: العربي عندما يتلقى الخبر يبقى له شعور غامض، ماذا قيل عن رجل حمل متفجرات فى سيارة وذهب بها نحو هدف وفجرها وتفجر معها، يأتى هنا السؤال بأى لفظ نتحدث عن هذا الإنسان… وهنا تأتى من وراء كل لفظة اختيارات سياسية، هل هو انتحارى ام «كاميكاز» كما يقول البعض.. هل هو استشهادى؟ هل هو فدائي؟ هل هو إرهابي؟ هذه البدائل اللغوية تخفى وراءها موقفاً وخيارات سياسية، طبعاً المشاهد العربي عندما يصغى وأذنه لاغيها إلى حد ما، له وعى غامض لكن وسائلنا الإعلامية ليست واقفة – بصراحة – على المسألة اللغوية.
مرتضى منصور
ينبه كتاب شعير مبكرًا لحالة بالغة الخصوصية والغرابة فيقول: في مصر. حالة خاصة.. اسمها مرتضى منصور هو كنز على بابا بالنسبة لأي صحفي يبحث عن نشر موضوعات ساخنة… معظم عباراته تصلح عناوين مثيرة.. وبعضها كفيل بأن يضع الصحفى خلف أسوار السجن.. أما مرتضى – فيخرج من الموقف.. خروج الشعرة من العجين، لذا فإن أصغر صحفى أو إعلامى يعرف أنه لن يستطيع نشر أو إذاعة كل ما يقوله “مرتضى” ولذلك يتم إجراء عمليات قص ولصق عديدة لاستخراج ما يمكن نشره أو إذاعته من كلماته ومع ذلك يظل هذا “الممكن نشره “، شديد السخونة والإثارة.
مضت سنوات وسنوات على هذه التجربة الثرية، وجرت في نهر الحياة المصرية مياه كثيرة، وتغيرت وجوه أكثر، لكن يبدو أنه لا جديد يذكر ولا قديم يعاد.