بعد عام شهد ضغوطًا على السيولة وأداءً أقل مقارنة بدول الخليج الأخرى، تستعد السوق السعودية في عام 2026 لمرحلة جديدة مدفوعة بتحسن العوامل الهيكلية للاقتصاد، وتوسع دور القطاعات غير النفطية، والتطورات المرتبطة بـ”رؤية السعودية 2030″. تراجع مؤشر “تاسي” بنسبة 14% منذ بداية العام، ويتجه لتسجيل أسوأ أداء سنوي له في عقد من الزمن، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الاستثمار في المملكة.
يجمع كل من هشام أبو جامع، كبير المستشارين في “نايف الراجحي الاستثمارية”، ومحمد مكني، أستاذ الاقتصاد في “جامعة الإمام محمد بن سعود”، على أن أداء السوق خلال العام الماضي لم يعكس ضعفًا اقتصاديًا عامًا، بل كان نتيجة اختلالات مؤقتة في السيولة وسلوك المستثمرين. ويتوقعان نموًا ملحوظًا في عدد من القطاعات خلال العام المقبل، مدفوعًا بالإصلاحات الحكومية والتحول الاقتصادي.
فجوة السيولة: أثر مؤقت وليس خللاً هيكليًا
أشار أبو جامع إلى أن ضعف السيولة كان أبرز سمات السوق السعودية خلال العام الحالي، خاصة مع نمو القروض المصرفية بوتيرة أسرع من نمو الودائع. بلغت قيمة القروض في القطاع المصرفي حوالي 400 مليار ريال في آخر 12 شهرًا، بينما نما حجم الودائع بنحو 200 مليار ريال فقط، مما أدى إلى اتساع الفجوة التمويلية التي بدأت في مايو 2022.
وأضاف أن هذه الفجوة لا تعكس ضعفًا في القطاع المصرفي، بل تعكس قوة الطلب على الائتمان الناتج عن النشاط الاقتصادي المتزايد. ومع ذلك، دفع تسارع وتيرة الإقراض مقارنة بنمو الودائع البنوك إلى البحث عن مصادر تمويل إضافية من خلال إصدارات سوق رأس المال. كثفت البنوك إصداراتها من أدوات الدين خلال العام الجاري، حيث بلغت قيمتها 15.39 مليار دولار، وفقًا لإحصاءات.
ويرى أبو جامع أن القطاع المصرفي لديه إمكانات نمو كبيرة إذا تمكن من زيادة ودائعه، مما سينعكس إيجابًا على قدرته على الإقراض، خاصة مع وجود قطاعات ضخمة تحتاج إلى تمويل كبير مثل السوق العقارية. يتوقع أن تشهد السوق العقارية نموًا قويًا في العام المقبل، خاصة مع بدء تطبيق رسوم الأراضي البيضاء.
في أبريل الماضي، قررت السعودية فرض رسوم مرنة على الأراضي البيضاء تصل إلى 10% سنويًا، بعد أن كانت تقتصر على نسبة ثابتة لا تتجاوز 2.5%. كما شملت الرسوم العقارية لأول مرة الأراضي الشاغرة، في محاولة لكسر الجمود وتحرير المعروض السكني، كجزء من حزمة إصلاحات تنظيمية واسعة النطاق في إطار “رؤية 2030”.
هذا النمو لن يقتصر على السوق العقارية فحسب، حيث أوضح أبو جامع أن تطوير هذه الأراضي سيتطلب قروضًا إضافية، بالإضافة إلى زيادة الطلب على مواد البناء مثل الإسمنت والحديد، مما سينعكس إيجابًا على الشركات العاملة في هذه القطاعات. يتوقع نمو قطاعات البنوك والإسمنت والشركات العقارية التي تمتلك تراخيص تطوير خلال العام المقبل، نظرًا للطلب المرتفع.
أداء السوق لا يعكس نتائج الشركات
على الرغم من التحديات التي واجهتها السوق السعودية، يؤكد أبو جامع أن العديد من الشركات القيادية حققت أرباحًا ربعية تاريخية، خاصة في قطاعات البنوك والتجزئة والاتصالات، بالإضافة إلى شركة “أرامكو”. ومع ذلك، لم تنعكس هذه النتائج بشكل كامل على أداء السوق، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع في العام المقبل، مدفوعًا بتقييم الشركات الرئيسية المنخفض.
كما لفت إلى أن التركيز ظل محصورًا في عدد محدود من الأسهم القيادية، بينما من المتوقع أن يتسع نطاق الاهتمام ليشمل شركات وقطاعات أخرى في عام 2026، مدعومًا بالإدراجات الجديدة القادرة على جذب المستثمرين المحليين والأجانب.
سوق الدين: محرك رئيسي في المرحلة القادمة
يشير أبو جامع إلى أن أحد أبرز التطورات في عام 2026 يتمثل في تنامي دور سوق الدين، حيث بدأت شركات غير مصرفية بالدخول بقوة إلى هذا السوق من خلال إصدارات محلية ودولية. بل إن بعض هذه الشركات تمكنت من الاقتراض بتكلفة أقل من البنوك نفسها.
كما اتجهت شركات كبرى، مثل “أرامكو”، إلى تنويع مصادر تمويلها من خلال أسواق خارجية، بما في ذلك الأسواق الآسيوية، مما يعكس مرونة أكبر في إدارة التمويل وتقليل الاعتماد على مصدر واحد. يتوقع أن تكون سوق الدين المحلية والدولية من بين أكثر الأسواق نشاطًا خلال السنوات الخمس المقبلة، مدفوعة باستمرار الطلب على التمويل.
في المقابل، يرى أن قطاع البتروكيماويات قد يحتاج إلى فترة أطول لاستعادة زخمه، نظرًا لارتباطه المباشر بحركة التجارة العالمية.
اقتصاد أكثر توازنًا في عام 2026
من جانبه، يؤكد محمد مكني أن الاقتصاد السعودي يدخل عام 2026 وهو في وضع أكثر توازنًا، بعد أن أثبتت القطاعات غير النفطية قدرتها على تعويض التراجع في النشاط النفطي. بلغت مساهمة القطاعات غير النفطية حوالي 56%، مما يدل على التحول الهيكلي في الاقتصاد.
كما بقيت معدلات التضخم ضمن نطاق مريح بين 1.9% و2%، وهو ما يدعم استمرار النشاط الاقتصادي. حققت سوق العمل تقدمًا ملحوظًا، مع انخفاض البطالة إلى ما دون 7%، وهو مستوى يسبق مستهدفات “رؤية 2030″، ويعكس حيوية الاقتصاد المحلي.
يوضح مكني أن الاستثمارات الأجنبية واصلت تدفقها، ليصل رصيدها التراكمي إلى حوالي 977 مليار ريال، مع تسجيل ما لا يقل عن 25 مليار ريال في كل ربع، مما يعكس ثقة متزايدة في الاقتصاد السعودي. كما أن موازنة 2026 خصصت حوالي 12% للإنفاق الرأسمالي، مما يشير إلى استمرار تنفيذ المشاريع الكبرى، خاصة تلك المرتبطة باستضافة “إكسبو”، بالإضافة إلى تعاظم دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي.
ويضيف أن بيئة أسواق الدين أصبحت أكثر جاذبية، مدعومة بتصنيفات ائتمانية إيجابية، وبنسبة دين إلى ناتج محلي تبلغ حوالي 31%، وهي نسبة تمنح الاقتصاد مرونة مالية كبيرة.
بشكل عام، من المتوقع أن يشهد العام 2026 تحسنًا في أداء السوق السعودية، مدفوعًا بالتحول الاقتصادي والإصلاحات الحكومية. ومع ذلك، لا تزال هناك بعض المخاطر والتحديات، مثل تقلبات أسعار النفط والظروف الاقتصادية العالمية، التي يجب مراقبتها عن كثب. سيكون من المهم متابعة تطورات سوق الدين، ونمو القطاعات غير النفطية، وتأثير الإصلاحات التنظيمية على أداء الشركات.
