تستمر المواجهات المكلفة بين روسيا وأوكرانيا، لكن المعركة هذه المرة لا تقتصر على الدبابات والصواريخ، بل امتدت لتهدد بخنق شريان اقتصادي تتنفس منه موسكو منذ عقود: النفط. فكييف، التي أُنهكت بحرب طويلة، تتحرك اليوم نحو سلاح أكثر إيلاماً، وهو استهداف مصافي النفط الروسية، في محاولة لتعويض الفارق العسكري وقلب موازين الصراع لصالحها. وبين حسابات الطاقة وجغرافيا الأنابيب ومخاطر التصعيد، يبرز السؤال: هل تنجح أوكرانيا فعلاً في قطع شريان النفط الروسي؟
بدأت أوكرانيا استهداف البنية التحتية النفطية داخل روسيا منذ المراحل الأولى للحرب في 2022، لكن وتيرة هذه العمليات توسعت لاحقاً بشكل منهجي. وتأتي هذه الهجمات في سياق سعي كييف لتقويض القدرة الاقتصادية الروسية، وتقليل الإيرادات التي تمول العملية العسكرية.
متى وكيف بدأت الضربات على منشآت النفط؟
كانت أولى مظاهر الاختراق المباشر للأراضي الروسية في أبريل 2022، عندما شنّت مروحيتان أوكرانيتان أول غارة عميقة على مستودع وقود في بيلغورود الروسية. خلال 2023، تصاعدت الهجمات تدريجياً باستخدام طائرات مسيّرة استهدفت مستودعات وموانئ نفطية مثل “توابسي” و”تامان” على البحر الأسود، في عمليات محدودة، وتركزت على المناطق الجنوبية القريبة من الحدود الأوكرانية.
بحلول 2024 ومطلع 2025، تحولت تلك الضربات إلى حملة منظمة شملت أكثر من عشرين موقعاً للطاقة داخل العمق الروسي، بينها مصافٍ ومخازن وخطوط أنابيب. وخلال الربع الأول من 2025 وحده، نفذت أوكرانيا 18 هجوماً ناجحاً على 11 منشأة، بعضها على بُعد أكثر من 500 كيلومتر من الحدود، في دلالة على تطور مدى ودقة مسيراتها.
وارتفع هذا العدد إلى 21 مصفاة مستهدفة حتى نوفمبر الجاري، بحسب موقع “غلافنوي” الأوكراني المستقل، والذي أشار إلى أن ذلك يشكّل 55% من عدد مصافي التكرير في روسيا. أدت هذه الضربات إلى وساطة أميركية دفعت كييف لوقف مؤقت للهجمات بين أبريل ويونيو 2025، لكنها استؤنفت بوتيرة أعلى منذ يوليو بدعم استخباراتي أميركي، لتتحول من ضربات محدودة إلى حملة استراتيجية تهدف لإضعاف قدرة روسيا النفطية والاقتصادية.
| السنة | عدد الهجمات | المصافي/ المنشآت المستهدفة | عدد المسيّرات |
| 2022 | 3 – 5 (تقديري) | 3 – 5 مصافٍ | غير محدد |
| 2023 | 10 – 15 (تقديري) | 6 – 8 مصافٍ | غير محدد |
| 2024 | 81 | 17 مصفاة كبرى | غير محدد |
| 2025 (يناير – نوفمبر) | أكثر من 160 | 21 مصفاة من أصل 38 (55%) | 333 مسيّرة |
| المصادر: “كييف بوست” و”رويترز” و”يورونيوز” و”غلافنوي” (غير رسمي) | |||
لماذا تستهدف أوكرانيا مصافي النفط والموانئ؟
تستهدف أوكرانيا المصافي والموانئ النفطية الروسية لأنها تدرك أن عائدات النفط والغاز تمثل شريان الحياة لاقتصاد موسكو، ومصدر تمويل رئيسي لحربها. منذ بدء الحرب، جمعت روسيا أكثر من 969 مليار يورو من صادرات الوقود الأحفوري حتى نوفمبر 2025، بحسب “مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف”، أي ما يفوق قيمة المساعدات التي تلقتها كييف من حلفائها.
لذلك تبنت أوكرانيا استراتيجية “الضربات في العمق” ووسعت ضرباتها لتشمل وحدات تقطير وخطوط أنابيب داخل العمق الروسي، بهدف إضعاف قدرة الكرملين على تمويل الحرب، معتبرة أن منشآت الطاقة تمثل “كعب أخيل” في اقتصاد روسيا. كما أن استهدافها لن يؤدي إلى مواجهة مباشرة.
حققت هذه الاستراتيجية نتائج ملموسة، إذ عطّلت الضربات الأوكرانية بين 2024 و2025 منشآت حيوية وأشعلت حرائق واسعة، فيما تفيد تقديرات نشرتها “رويترز” و”كييف بوست” و”لفيف هيرالد” بأن الهجمات أسفرت عن تعطل 15 إلى 20% من طاقة التكرير الروسية الأساسية. كما أجبرت هذه الهجمات روسيا على نشر منظومات دفاع إضافية حول منشآت النفط.
رغم تأثير الضربات، أظهرت موسكو مرونة نسبية بفضل طاقاتها الاحتياطية، إذ لم ينخفض تكرير النفط سوى بنحو 3% حتى الآن في 2025، بحسب مصادر لـ”رويترز”، واستطاعت البلاد تعويض توقف منشآت، من خلال تشغيل وحدات بديلة.
ما حجم الأضرار التي تكبدتها روسيا، وكيف صمدت؟
تكبدت روسيا خسائر في قطاع الطاقة نتيجة الضربات الأوكرانية، وتراجعت صادرات الخام المنقولة بحراً قرابة 10% عام 2024. أيضاً تسبب تعطل بعض وحدات التكرير في انخفاض إنتاج البنزين بنحو 10%، ما أجبر موسكو على تقييد صادرات المشتقات النفطية للحفاظ على الإمدادات المحلية، وفق صحيفة “كوميرسانت” وتقارير “ميدوزا” ومركز “كارنيغي للسلام الدولي”.
وعلى المستوى الاقتصادي، أرهقت هذه الضربات موسكو بتكاليف إصلاح مرتفعة في ظل نقص قطع الغيار الغربية، واضطرتها لنشر أنظمة دفاع جوي إضافية، وفرض قيود على توزيع الوقود في مناطق مثل القرم، وصولاً إلى حظر مؤقت لصادرات البنزين والديزل في سبتمبر 2025.
ورغم تقليل الكرملين من حجم الأضرار والتأكيد على “إحباط المسيرات”، فإن اتساع رقعة الاستهداف من الجنوب حتى موسكو يشير إلى خسائر تراكمية متزايدة في البنية التحتية النفطية الروسية. مع ذلك، ساعد روسيا على الصمود “أسطول الظل” الذي تم تأسيسه بهدف تجاوز العقوبات الغربية.
ما هي التوقعات المستقبلية؟
من المتوقع أن تستمر أوكرانيا في استهداف البنية التحتية النفطية الروسية، خاصة مع استمرار الدعم الغربي. وستعتمد فعالية هذه الاستراتيجية على قدرة أوكرانيا على الحفاظ على إمدادات المسيرات، وتطوير قدراتها الهجومية. في المقابل، ستحاول روسيا تعزيز دفاعاتها، وتنويع مصادر الطاقة، وإيجاد طرق للالتفاف على العقوبات. من المرجح أن يشهد قطاع الطاقة الروسي مزيداً من التقلبات والضغوط في الأشهر المقبلة، مع استمرار الحرب وتصاعد التوترات الجيوسياسية. وستراقب الأسواق العالمية عن كثب تطورات الأوضاع، وتقييم تأثيرها على أسعار النفط والإمدادات العالمية.
