بعد أربعة أعوام من النمو الملحوظ، بدأت وتيرة الطروحات العامة الأولية في الشرق الأوسط تفقد زخمها، وذلك في ظل التدقيق المتزايد في تقييم الشركات، وعودة قوية لعمليات الطرح في أسواق الولايات المتحدة وآسيا. يشهد سوق الخليج تحولاً ملحوظاً في معنويات المستثمرين، مما يؤثر على حجم ووتيرة الاكتتابات الجديدة.
تراجع حجم الطروحات الأولية في دول الخليج إلى أدنى مستوياته منذ فترة الجائحة، حيث أصبح المستثمرون أكثر انتقائية في اختياراتهم، وتضاءلت فرص تحقيق مكاسب كبيرة في اليوم الأول من التداول، وهو أمر كان يعتبر سابقاً من المسلمات في المنطقة. هذا التراجع يعكس تغيرات أوسع في الأسواق المالية العالمية والإقليمية.
تراجع حجم الطروحات الأولية في أسواق الخليج
يُعد الانخفاض الحاد في حجم الطروحات الأولية على مستوى الخليج أبرز دليل على هذا التحول. فقد انخفضت قيمة الاكتتابات في المنطقة بأكثر من النصف، من حوالي 13 مليار دولار إلى أقل من 6 مليارات دولار في عام 2025. يعكس هذا التراجع حالة من الحذر بين المستثمرين، وتوقعات أقل بنمو الأسهم.
في الإمارات العربية المتحدة، شهدت عمليات الإدراج تباطؤاً ملحوظاً بعد الأداء الضعيف لأسهم “لولو للتجزئة القابضة” و”طلبات” في أول يوم للتداول في نهاية العام الماضي. كما أرجأت شركة “دوبيزل”، وهي منصة إعلانات مبوبة إلكترونية مقرها دبي، خططها لطرح أسهمها، في خطوة غير معتادة في السوق الإماراتية. وشهدت سلطنة عُمان أيضاً تراجعاً في النشاط بعد فترة وجيزة من التفوق على لندن في حجم الطروحات.
وفي المملكة العربية السعودية، تم إلغاء طرح أسهم شركة “إي إف إس آي إم” (EFSIM) بسبب تراجع الطلب العام في السوق، وفقاً لمصادر مطلعة. ومع ذلك، حافظت المملكة على حصيلة طروحات أولية تقارب 4 مليارات دولار، مما ساعدها في الحفاظ على مكانتها كأكثر أسواق الخليج نشاطاً في هذا المجال. لكن معظم الصفقات جاءت من القطاع الخاص، بينما تباطأت وتيرة عمليات الخصخصة الحكومية الكبرى.
صرح مصطفى جاد، مدير خدمات الاستثمار المصرفية لدى “إي إف جي هيرميس”، بأن “الطروحات الحكومية عادة ما تكون كبيرة الحجم، ولم تكن السوق مهيأة لمثل هذه الصفقات هذا العام. كان تأجيل الطروحات الضخمة قراراً حكيماً”. وتعتبر “إي إف جي هيرميس” من بين أكبر منظمي الطروحات في منطقة الخليج.
تراجع حجم الصفقات وقيمة الطروحات
يتضح التغير في المعنويات أيضاً في حجم الصفقات. ففي العام الماضي، شهدت ثلاثة طروحات أولية قيمة تتجاوز المليار دولار، وذلك بفضل الإقبال الكبير على الاكتتاب في “طلبات” و”لولو”. أما في عام 2025، فقد كانت هناك صفقة واحدة فقط بقيمة مليار دولار، وهي طرح شركة “طيران ناس”، و تجاوزت أربع صفقات فقط مستوى 500 مليون دولار.
أضاف جاد أن المستثمرين يفضلون الشركات الأصغر حجماً، والأكثر بساطة، والتي تتمتع ببيانات مالية واضحة. وأشار إلى أن “أي طرح تتجاوز قيمته 500 مليون دولار يبدأ في مواجهة صعوبات متزايدة. فالناس لا يرغبون في التعامل مع الكثير من التعقيد”.
موجة الطروحات الثانوية
في حين تراجعت الطروحات الأولية في الإمارات، عوضت الطروحات الثانوية هذا النقص، حيث بلغت حصيلتها حوالي 5 مليارات دولار، متجاوزةً بذلك حصيلة الطروحات الأولية للمرة الأولى. جاء أغلب النشاط من المساهمين المدعومين من حكومة أبوظبي، الذين قاموا بتقليص حصصهم لزيادة الأسهم المتاحة للتداول العام، وتعزيز السيولة، وتحسين الأوزان في المؤشرات.
حتى قطر، التي كانت غائبة عن فورة الطروحات في الخليج، شهدت نشاطاً نادراً في الطروحات الثانوية، حيث كان بيع جهاز أبوظبي للاستثمار حصة في شركة “أُريدُ” هو أكبر حدث في أسواق رأس المال في البلاد منذ سنوات.
تلاشي الارتفاعات في أول يوم من التداول
ظهر تحول حاسم آخر في الأداء، فبعد أن أصبح ارتفاع السهم بنسبة تزيد عن 30% في أول يوم للتداول سمة مميزة للطروحات في الخليج، بدأت هذه الظاهرة في التراجع أواخر عام 2024، واختفت تماماً في عام 2025. في السعودية، تحول متوسط مكاسب الطرح إلى السالب، ومن بين أكبر الطروحات الأولية في المملكة، يتداول سهمان فقط بأعلى من سعر الطرح.
كما انخفض الطلب على الطروحات في الآونة الأخيرة، حيث غطت أوامر المؤسسات الاستثمارية اكتتاب “الرمز العقارية” 11 مرة فقط في وقت سابق من الشهر، وهو أقل بكثير من مستويات التغطية التي كانت معتادة قبل شهور.
حققت الطروحات الأولية في الإمارات أداءً أفضل، لكن مؤشرات على الإرهاق بدأت تظهر هناك أيضاً. حتى شركة “أليك القابضة” للإنشاءات، المدعومة من الدولة، والتي عادة ما تحقق أداءً قوياً في أول يوم للتداول، كان أداء سهمها فاتراً، وارتفع سعره حالياً بشكل طفيف.
وأشار جاد إلى أن هذا التصحيح مرحب به من وجهة نظر البعض، مضيفاً: “سيتأقلم الجميع مع فكرة أن ليست كل الطروحات ستحقق ارتفاعاً بنسبة 30% إلى 40% في أول يوم للتداول”. واختتم حديثه قائلاً: “نتحول إلى سوق ناضجة”.
من المتوقع أن يستمر سوق الطروحات الأولية في منطقة الخليج في التكيف مع الظروف المتغيرة، مع التركيز على جودة الشركات المطروحة وتقييمها العادل. سيراقب المستثمرون عن كثب تطورات أسعار النفط، والسياسات الحكومية، والظروف الاقتصادية العالمية، والتي ستؤثر على مستقبل عمليات الاكتتاب في المنطقة.
