يشهد العالم تحولاً ملحوظاً في الثقة بالـدولار، حيث تتزايد المخاوف بشأن هيمنته التقليدية كعملة احتياط عالمية. هذا التراجع ليس نتيجة لعوامل اقتصادية فحسب، بل يتأثر أيضاً بالسياسات الأميركية المتزايدة الحمائية، والتدخلات في الشؤون المالية للدول الأخرى، والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة. وتساهم الديون الأميركية المتزايدة والعقوبات الاقتصادية التي تستخدم الدولار كسلاح في تعميق هذا الاتجاه نحو فقدان الثقة.
لم يعد جنوب العالم يرى في الدولار ملاذاً آمناً كما كان في السابق. ففرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على كل من حلفائها وخصومها، إلى جانب محاولات التأثير على البنوك المركزية الأجنبية، يثير تساؤلات حول استقرار وموثوقية السياسة الاقتصادية الأميركية. هذا التبدل في النظرة ينعكس على قرارات الاستثمار والمدخرات لدى الدول الناشئة.
لماذا تتضاءل ثقة العالم بالدولار؟
على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد في العالم وتمتلك أعمق الأسواق المالية وأقوى جيش، إلا أن هذه الميزات لم تعد كافية للحفاظ على هيمنة الدولار السابقة. فمنذ بداية القرن الحادي والعشرين، انخفضت حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية من أكثر من 70% إلى أقل من 60%، وفقاً لعدة مؤشرات. هذا الانخفاض كان سيكون أسرع وأكثر وضوحاً لولا التحديات التي تواجه المنطقة النقدية الأوروبية والنظام المالي الصيني.
تاريخياً، كانت دول مثل الصين والشرق الأوسط تعيد تدوير مدخراتها في سوق الدين الأميركي، مما يساهم في خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة. هذا الدعم المالي كان يقلل تكاليف الاقتراض ويوفر مليارات الدولارات لدافعي الضرائب والشركات. ولكن هذا النمط من إعادة التدوير بدأ في التغير.
تغيير في استراتيجيات الدول الكبرى
تُقلل الصين الآن من اعتمادها على الاحتفاظ بالدولار، حيث تتبنى سياسة صرف أكثر مرونة. وبالمثل، تنفق دول الخليج مليارات الدولارات في مشاريع تنموية داخلية وتزيد من استثماراتها الخارجية، ولكن ليس بالضرورة في شكل سندات الخزانة الأميركية. ويظهر تحول سعودي، على سبيل المثال، نحو أن تصبح ممولًا بدلًا من مجرد مقرض.
الدولار كسلاح سياسي
أدى استخدام الولايات المتحدة للعقوبات الاقتصادية، وتجميد أصول الدول الأخرى – كما حدث مع روسيا بعد غزو أوكرانيا في عام 2022 – إلى زيادة المخاوف بشأن تحول الدولار إلى أداة سياسية. هذا الأمر يدفع دولاً مثل الصين ودول الخليج إلى البحث عن بدائل لتقليل تعرضها لهذه المخاطر. وتتجه بعض الدول النفطية نحو تقليل اعتمادها على الدولار في التجارة الدولية، مما يفتح الباب أمام استخدام عملات أخرى مثل اليوان الصيني.
دور الصين في تقليص هيمنة الدولار
تتبنى الصين بشكل متزايد استخدام اليوان في التجارة العالمية، وتهدف إلى تعزيز دوره كعملة احتياط بديلة. ارتفعت حصة اليوان في فواتير التجارة الصينية إلى 25% في عام 2023 مقارنة بـ 2% فقط في عام 2010. كما أن انخفاض الفوائض التجارية الصينية يقلل من السيولة النقدية المتاحة لإعادة تدويرها في الأسواق العالمية.
تُظهر النماذج الاقتصادية أن حصة الدولار في احتياطيات الصين قد تنخفض بشكل ملحوظ في العقود القادمة. فوفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، قد تنخفض حصة الدولار من 58% حالياً إلى 24% بحلول عام 2050. ومع ذلك، هناك سيناريوهات أخرى، مثل تصاعد التوترات الجيوسياسية، يمكن أن تؤدي إلى انخفاض أسرع وأكثر حدة في حصة الدولار.
تداعيات تراجع الدولار على الاقتصاد العالمي
يشير تراجع ثقة العالم بالدولار إلى أننا نشهد نهاية عصر تدفق الأموال الأجنبية السهلة إلى الأصول الأميركية. وهذا يعني ارتفاعاً محتملاً في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، مما يزيد من تكلفة الاقتراض ويؤثر على الاستثمارات المحلية. كما أن ذلك يقلل من قدرة الولايات المتحدة على استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة للضغط السياسي.
على المدى القصير والمتوسط، من غير المرجح أن تتخلى دول الخليج بشكل كامل عن الدولار، نظراً لربط عملاتها بالدولار وعلاقاتها الأمنية الوثيقة مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن استمرار تراجع الإيرادات وارتفاع الإنفاق المحلي قد يدفعها إلى تقليل استثماراتها في الأصول الدولارية. وتشير التقديرات إلى أن هذه التعديلات ستكون تدريجية، وستتوقف على مدى استمرار التوترات الجيوسياسية وتقلبات أسعار النفط.
في المستقبل القريب، يجب مراقبة تطورات السياسة النقدية الصينية واستراتيجيات الاستثمار لدول الخليج. كما أن أي تغييرات في السياسة الأميركية، مثل تخفيف الرسوم الجمركية أو تحسين العلاقات الدبلوماسية، يمكن أن تؤثر على ثقة العالم بالدولار. من المتوقع أن يستمر هذا التحول التدريجي في السنوات القادمة، مع اتجاه العالم نحو نظام نقدي دولي أكثر تعددية.
