أثناء زيارة نادرة تعد هي الرابعة في تاريخ الرؤساء الأمريكيين منذ افتتاح الاحتياطي الفيدرالي وأمام كاميرات وسائل الإعلام، دخل الرئيس ترمب في سجال مع جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فبينما أكد “دونالد” أن تجديد مباني الفيدرالي في واشنطن وصلت إلى 3.1 مليار دولار وليس 2.7 مليار دولار كما تردد، نفى “باول” هذا الرقم في البداية، لكن أمام إصرار الرئيس أكد “جيروم” أن التكلفة تشمل على الأرجح تجديد مبنى “مارتن” الذي تم بناؤه قبل خمس سنوات، وبعيدًا عن أيهما أصح كان المشهد كافيا لأن يؤكد للأوساط المصرفية والاقتصادية أن التوتر الذي طغى على العلاقة بين الاثنين في سنوات ماضية ما زال مستمرًا.
قبل 118 عاما، تلقى المصرفي الأمريكي جون بيربونت مورجان سيلا من برقيات المستثمرين ورجال البورصة يطالبونه فيها بإيجاد حل للأزمة المالية التي دفعت المودعين إلى سحب أموالهم فجأة من البنوك، ما أدى إلى انهيار النظام المصرفي، وكحل مؤقت دعاهم “مورجان” إلى مكتبه في وول ستريت لوضع تصورات نهائية لحل الأزمة، وكانت أبرز الاقتراحات تأسيس صندوق برأسمال قدره 10 ملايين دولار لدعم “البنوك المفلسة” وإنشاء مصرف مركزي يكون بمنزلة “ملاذ أخير” في وقت الاضطرابات، وهو ما حدث في 1913 حين تأسس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، لكن “مورجان” لم يرَ تلك اللحظة إذ توفي قبلها بفترة قصيرة.
أهمية الاحتياطي الفيدرالي ظهرت منذ اللحظة الأولى باعتباره الكيان المسؤول عن السياسة المالية وصيانة الاستقرار والعملة الوطنية وتأمين النقود والتحكم في معدل الفوائد على القروض، إضافة إلى سلطة الإشراف على عمل البنوك والتأكد من عدم اتباعها سياسة احتيالية أو متهورة، كما أنه مسؤول أيضًا عن احتواء أي مخاطر تهدد هذا النظام، ومع تعاظم دور أمريكا الاقتصادي طوال القرن العشرين تخطى الاحتياطي الفيدرالي دوره الوطني وأصبح هو المؤثر الأكبر في حركة المال والأعمال العالمية، فيما تصفه الدراسات بـ”الحاكم الفعلي للعالم” من خلال 3 مسارات يمكن للاحتياطي الفيدرالي أن يتحكم في سعر رغيف الخبز في أكثر من نصف العالم، فـ60% من احتياطيات البنوك المركزية حول العالم بالدولار، 80% من حجم التجارة العالمية بالعملة الخضراء، أما المسار الثالث فمن خلال سعر الفائدة الذي يحدده الاحتياطي الفيدرالي، إذ عبره يتم تحديد اتجاه حركة الأموال عالميًا، وبسببه تعيد الدول تقييم عملتها لتواكب حركة السوق، كما أن سوق السندات الأمريكية تعد هي الأكبر عالميًا بقيمة تبلغ نحو 55 تريليون دولار، ويعد “الفيدرالي” أكبر لاعب في هذه السوق.
أهمية كتلك تتطلب شفافية كاملة في كيفية اتخاذ القرارات التي تتحكم في مصير العالم الاقتصادي ومئات الملايين من البشر، لكن هذا لا يحدث مع “الفيدرالي” الذي يحيط به الغموض في كثير من الأوقات، مثل اجتماعاته المغلقة التي يحظر خلالها على الأعضاء استخدام هواتفهم أو الوصول إلى الإنترنت، وتجنب استخدام لفظ “إنقاذ” خلال أزمة 2008 المالية خوفًا من إثارة غضب الرأي العام، بل أحيانًا يتعمد رئيس “الفيدرالي” الأمريكي الإدلاء بتصريحات غامضة مثل آلان جريسنبان الذي اشتهر بذلك مبررًا أسلوبه بقول “إذا بدوت واضحًا جدًا فربما أخطئ في التعبير” لكن الحقيقة كما رآها آخرون أنه كان لا يريد للأسواق العالمية أن تفهم نواياه بدقة.
هيكليًا يتكون مجلس الاحتياطي الفيدرالي من 7 محافظين يعينهم الرئيس وتبلغ مدة تعيينهم 14 عاما، ورغم أن البنك نفسه مؤسسة مستقلة لا تتبع جهة وليس من الضروري أن يقر الرئيس أو أي مسؤول ما يتخذه “الفيدرالي” من قرارات وسياسات، ويملك الكونجرس فقط حق المراقبة، إلا أن تلك الاستقلالية التامة لم تكن حاضرة طوال الوقت، فالرئيس ليندون جونسون ضغط على رئيس الفيدرالي وليام مارتن عام 1965 من أجل خفض الفائدة لدعم الإنفاق على حرب فيتنام، وكرر ذلك ريتشارد نيكسون 1974 لدعم الاقتصاد وخفض التضخم، حتى جون كينيدي وباراك أوباما فعلا نفس الأمر، لكن من خلال الاجتماعات المغلقة وفقًا لصحيفة “الجارديان” البريطانية.
سار ترمب على نفس النهج، ففي ولايته الأولى اختار جيروم باول لرئاسة الفيدرالي لكن سرعان ما دب الخلاف بين الرجلين بسبب رفع الفيدرالي للفائدة وهو ما أزعج “دونالد” الذي اتهم المؤسسة المالية العريقة بأنها السبب في إبطاء الاقتصاد خاصة قبل انتهاء ولايته الأولى 2020، ومع عودته إلى البيت الأبيض مرة أخرى تجدد الخلاف حول سياسة الفائدة، إذ دعا الرئيس الأمريكي في أكثر من مناسبة إلى خفض تكاليف الاقتراض لتعزيز النمو الاقتصادي وهو ما يعارضه رئيس المصرف المركزي تحت دعاوى احتواء التضخم، ولم يكن أمام ترمب سوى وصف باول عبر منصة “تروث سوشيال” بأنه “متأخر ومخطئ دائمًا”.
كل خلاف بين الرئيس الأمريكي ورئيس الفيدرالي كانت له فاتورته الاقتصادية وتأثيره في العملات الأخرى، وبينما اختارت أوروبا أن تترك عملتها الموحدة “اليورو” في مواجهة العرض والطلب، اتخذت دول الخليج وفي مقدمتها السعودية مسارا آخر من خلال ربط العملة المحلية بالدولار عند سعر ثابت لا يتغير في مقابل بيع النفط بالدولار، وبتلك المعادلة التي طبقت منذ ثمانينيات القرن الماضي استطاعت دول الخليج حماية عملتها واقتصادها من أي توتر أو تقلبات في أسواق الطاقة، كما رأى ماتياس أنجونيون المحلل المالي في وكالة موديز، والسؤال الآن: أي الدول ستكون ضحية خلاف “ترمب – باول” إن تصاعدت حدته؟