تسعى الولايات المتحدة، بعد عقود من التراجع، إلى إحياء صناعة بناء السفن لديها، معتبرةً إياها ركيزة أساسية للأمن القومي، واكتفاء الطاقة، وتعزيز النفوذ الجيوسياسي. وتأتي هذه الجهود في ظل هيمنة صينية متزايدة على هذا القطاع الحيوي، مما دفع واشنطن إلى إعادة تقييم استراتيجيتها الصناعية. يركز الجهد الحالي على بناء شراكات دولية، وتحديداً مع كوريا الجنوبية، لتعويض الفجوة التكنولوجية والإنتاجية المتراكمة.

صناعة بناء السفن الأمريكية: كيف فقدت الزخم؟

لم تشهد صناعة بناء السفن الأمريكية نموًا كبيرًا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث اقتصرت الطفرات على فترتي الحربين العالميتين الأولى والثانية. بعد ذلك، تدهورت البنية التحتية، وتراجع الاستثمار في هذا المجال، وتضاءل عدد العمال المهرة، بالتزامن مع صعود قوى آسيوية جديدة.

وفقًا لتقارير قطاع الشحن، تفتقر الولايات المتحدة حاليًا إلى القدرة التنافسية في بناء السفن التجارية، مما أدى إلى الاعتماد بشكل كبير على الواردات. هذا الوضع أثار مخاوف بشأن الأمن الاقتصادي والقدرة على تلبية الاحتياجات المستقبلية.

الصين تسيطر على السوق العالمي لبناء السفن

أصبحت الصين القوة المهيمنة في بناء السفن التجارية على مستوى العالم، متجاوزةً اليابان في عام 2008 وكوريا الجنوبية في عام 2010. وتواصل الصين توسيع حصتها في السوق، حيث بلغت حوالي 53% حاليًا، وتشير التوقعات إلى ارتفاعها لتصل إلى 75% بحلول عام 2025، وفقًا لمحللين في القطاع.

في المقابل، لا تتجاوز حصة الولايات المتحدة 0.2% من السوق العالمي. هذه الفجوة الكبيرة دفعت الإدارة الأمريكية، بدءًا من إدارة بايدن واستمرارًا مع إدارة ترامب، إلى فتح تحقيقات تجارية، خلصت إلى أن الحكومة الصينية قدمت دعمًا كبيرًا لقطاع بناء السفن، مما أضر بالمنافسة العادلة.

إجراءات حكومية لدعم الصناعة

في أبريل الماضي، وقّع الرئيس ترامب أمرًا تنفيذيًا يهدف إلى دعم صناعة بناء السفن الأمريكية كجزء من أجندة “أمريكا أولاً”. تركز هذه الخطة على بناء ناقلات الغاز الطبيعي المسال، وكسّارات الجليد القطبية، وسفن البحرية الأمريكية.

ومع ذلك، يقر خبراء الصناعة بأن تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في بناء السفن سيكون أمرًا صعبًا، ويتطلب تعاونًا دوليًا ونقلًا للمعرفة والخبرات.

الشراكات الأجنبية: مفتاح إحياء صناعة بناء السفن

يعتمد إحياء صناعة بناء السفن الأمريكية بشكل كبير على الشراكات مع شركات أجنبية، وعلى رأسها مجموعة هانهوا الكورية الجنوبية، ثالث أكبر شركة لبناء السفن في العالم. تعتبر هانهوا حجر الزاوية في الخطة الأمريكية الطموحة.

في إطار اتفاق استثماري بقيمة 350 مليار دولار بين سيول وواشنطن، تم تخصيص 150 مليار دولار للاستثمار في القطاع البحري. اشترت هانهوا حوض فيلادلفيا لبناء السفن مقابل 100 مليون دولار، وأعلنت عن خطة استثمارية بقيمة 5 مليارات دولار لزيادة قدرته الإنتاجية من سفينة واحدة سنويًا إلى 20 سفينة في المستقبل.

تحديات العمالة الماهرة

يواجه حوض فيلادلفيا حاليًا تحديًا كبيرًا يتمثل في نقص العمالة الماهرة. فعدد العاملين الحالي يبلغ حوالي 1700 شخص، بينما تتطلب الخطة المستقبلية أكثر من 10000 عامل. ونظرًا لقلة المدربين الأمريكيين المتخصصين، اضطرت هانهوا إلى إرسال بعض العمال إلى كوريا الجنوبية لتلقي التدريب اللازم.

يعكس هذا النموذج واقع الفجوة التي تعاني منها الولايات المتحدة في مجال بناء السفن، ويؤكد على أهمية التعاون الدولي لسد هذه الفجوة.

الأمن الطاقوي والدفاعي: محركات الطلب على السفن

تأتي ناقلات الغاز الطبيعي المسال في مقدمة الطلبات الأولية، في سابقة هي الأولى منذ حوالي 50 عامًا لبناء سفينة غاز طبيعي مسال في الولايات المتحدة. ورغم أن صادرات الغاز الأمريكية لا تعاني من نقص في السفن، إلا أن هذه الخطوة تهدف إلى بناء طلب محلي طويل الأجل.

بالإضافة إلى ذلك، طلبت هانهوا أيضًا 10 ناقلات نفط ومواد كيميائية، في أكبر صفقة تجارية من نوعها منذ أكثر من عقدين. ويشير هذا الطلب إلى اهتمام متزايد بتأمين سلاسل الإمداد، وتعزيز القدرات اللوجستية.

وفي مجال الدفاع، أُعلن خلال جولة الرئيس ترامب الآسيوية أن حوض فيلادلفيا سيبدأ في بناء أول غواصة تعمل بالطاقة النووية بالتعاون مع هانهوا. كما تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز قدراتها في بناء كسّارات الجليد، حيث تمتلك حاليًا ثلاث سفن فقط، إحداها عمرها يقارب نصف قرن.

مع ذوبان الجليد القطبي وافتتاح ممرات شحن جديدة، أصبح السباق على بناء كسّارات الجليد استراتيجيًا بامتياز. وقّعت واشنطن اتفاقًا بقيمة 6.1 مليارات دولار مع فنلندا لبناء 11 كسّارة جليد، في إطار شراكة أوسع تشمل كندا، ضمن ما يعرف باتفاق آي سي إيه.

من المتوقع أن تشهد صناعة بناء السفن الأمريكية تطورات كبيرة في السنوات القادمة، مع استمرار الاستثمار في البنية التحتية، وتوسيع الشراكات الدولية، وتدريب العمالة الماهرة. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة، مثل المنافسة الشديدة من الشركات الآسيوية، والتقلبات في الأسواق العالمية، والاعتبارات الجيوسياسية. ستكون متابعة التقدم المحرز في تنفيذ هذه الخطط، وتقييم تأثيرها على الأمن القومي والاقتصاد الأمريكي، أمرًا بالغ الأهمية في المستقبل القريب.

شاركها.