يواجه الاحتياطي الفيدرالي تحديًا معقدًا يتمثل في التناقض بين استمرار النمو الاقتصادي القوي في الولايات المتحدة، مدفوعًا بالاستثمار المتزايد في الذكاء الاصطناعي وإنفاق المستهلكين، وبين تباطؤ ملحوظ في سوق العمل. هذا التباين يثير قلقًا متزايدًا بين صناع السياسات النقدية، حيث قد يشير إلى سيناريو “انتعاش بلا وظائف” يهدد الاستقرار الاقتصادي.

منذ بداية العام، تأثر الاقتصاد الأمريكي بتغييرات في السياسات التجارية وسياسات الهجرة، مما أدى إلى حالة من عدم اليقين لدى الشركات. ورغم محاولات الفيدرالي لتحفيز النشاط الاقتصادي من خلال خفض أسعار الفائدة مرتين، إلا أن الشركات ظلت حذرة في عمليات التوظيف الجديدة.

تناقض بين الإنتاجية والتوظيف

أظهرت البيانات الاقتصادية فقدان الولايات المتحدة لوظائف في شهري يونيو وأغسطس، بينما لم يتجاوز متوسط الوظائف المضافة خلال الأشهر الثلاثة المنتهية في سبتمبر حوالي 62 ألف وظيفة فقط، وهو أدنى مستوى منذ سنوات. ومع ذلك، لم ينعكس هذا التراجع في التوظيف على مستويات الإنتاجية أو على النمو الاقتصادي الكلي.

تشير التقارير إلى أن العمالة الأمريكية ما زالت تحقق مستويات إنتاجية عالية، وأن الناتج المحلي الإجمالي يحافظ على زخمه، مدعومًا بالاستثمارات الضخمة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وقد ارتفع إنفاق الشركات على المعدات والبرمجيات بنسبة 4.4% في الربع الثاني، وهو مستوى يقارب ذروة فقاعة الدوت كوم في بداية الألفية.

لكن هذه الاستثمارات، وفقًا لعدد من الاقتصاديين، غالبًا ما تأتي على حساب التوظيف. فالشركات تركز حاليًا على تحسين الكفاءة التشغيلية بدلاً من توسيع فرق العمل، في ظل استمرار الطلب الاستهلاكي القوي الذي يحمي الأرباح. وحتى الصدمة الناتجة عن إغلاق الحكومة مؤخرًا، من المتوقع أن يتم تعويضها مع بداية العام المقبل.

السياسات وتأثيرها على سوق العمل

يلعب التغيير في السياسات التجارية والهجرة دورًا مباشرًا في الضغط على سوق العمل. فقد أضعفت هذه التحولات كلًا من جانب العرض والطلب، من خلال تقليل توافر العمالة وتعقيد عملية التخطيط للشركات. ويعتقد بعض الخبراء أن خفض أسعار الفائدة وحده لن يكون كافيًا لمعالجة هذه الآثار في المدى القصير.

بالإضافة إلى ذلك، يشير تحليل اقتصادي إلى أن الشركات قد تكون أكثر ميلاً للاستثمار في الأتمتة والذكاء الاصطناعي لتقليل الاعتماد على العمالة البشرية، خاصة في ظل حالة عدم اليقين بشأن السياسات المستقبلية. هذا التحول قد يؤدي إلى تغيير هيكلي في سوق العمل، مع زيادة الطلب على العمالة الماهرة في مجالات التكنولوجيا وانخفاض الطلب على العمالة ذات المهارات المتدنية.

مخاوف الفيدرالي وسيناريو الانتعاش بلا وظائف

أظهر محضر اجتماع الاحتياطي الفيدرالي في أكتوبر أن التباعد بين النمو الاقتصادي القوي وضعف خلق الوظائف قد خلق بيئة معقدة للغاية لصنع القرار. ويخشى الفيدرالي من أن استمرار هذا الوضع قد يجعل الاقتصاد أكثر عرضة للصدمات، حيث أن أي انتكاسة بسيطة قد تؤدي إلى تباطؤ حاد.

ويؤكد كبير الاقتصاديين في أوكسفورد إيكونوميكس أن سوق العمل يمثل خط الدفاع الأول للاقتصاد، وأن أي ضعف في هذا الخط قد يقلل من قدرة الاقتصاد على استيعاب الصدمات. وقد أعربت لوري لوغان، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، عن هذه الحيرة مؤخرًا، مشيرة إلى أنها تجد صعوبة في دعم خفض ثالث لأسعار الفائدة في ديسمبر ما لم تظهر دلائل قوية على تباطؤ التضخم أو ضعف إضافي في سوق العمل.

إلى أين يتجه الاقتصاد؟

يتوقع مسؤولون في الفيدرالي أن شيئًا ما يجب أن يتغير في الأشهر المقبلة، إما أن يتباطأ النمو الاقتصادي ليتماشى مع ضعف التوظيف، أو أن ينتعش سوق العمل ليلحق بركب الاقتصاد. وفي حال استمرار هذا التباين، فإن الاقتصاد الأمريكي سيظل في منطقة رمادية، مع مخاطر متزايدة على مسار السياسة النقدية.

من المتوقع أن يستمر الفيدرالي في مراقبة البيانات الاقتصادية عن كثب، وخاصة بيانات التضخم والتوظيف، قبل اتخاذ أي قرارات بشأن أسعار الفائدة. وسيكون التركيز على تحديد ما إذا كان التباطؤ في التوظيف مؤقتًا أم أنه يشير إلى تغيير هيكلي في سوق العمل. من المرجح أن يتم اتخاذ القرار التالي بشأن أسعار الفائدة في اجتماع الفيدرالي القادم في ديسمبر، مع الأخذ في الاعتبار أحدث البيانات الاقتصادية والتطورات العالمية.

شاركها.