بات الحديث عن النفوذ السياسي للأثرياء مرتبطاً بشكل متزايد بارتفاع ثروات كبار المليارديرات في الولايات المتحدة. يشهد النظام السياسي الأمريكي تحولاً ملحوظاً، حيث يزداد تأثير الأموال الخاصة على الانتخابات وصنع القرار، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية. ووفقاً لتقارير حديثة، شهد الإنفاق السياسي من قبل الأثرياء ارتفاعاً غير مسبوق، خاصةً خلال انتخابات 2024.
على مدى ربع قرن، ارتفع الإنفاق السياسي لأكثر الأمريكيين ثراءً بشكل كبير، حيث قفز من 46 مليون دولار في عام 2000 إلى أكثر من 1.1 مليار دولار في انتخابات 2024. هذا التحول ليس مجرد زيادة في التبرعات، بل هو إعادة تشكيل للنفوذ السياسي، حيث يمثل المال عاملاً حاسماً في تحديد مسار الحملات الانتخابية والسياسات العامة. تشير البيانات إلى أن واحداً من كل 13 دولاراً تم إنفاقه في الانتخابات الفيدرالية العام الماضي جاء من شريحة صغيرة جداً من السكان، لا تتجاوز 4% من الواحد بالمئة.
المال الطاغي في السياسة الأمريكية
يعود هذا الارتفاع في النفوذ المالي إلى عدة عوامل، أبرزها قرارات قضائية مهمة منذ عام 2010، مثل قضية مواطنون متحدون، التي فتحت الباب أمام التمويل غير المحدود من الشركات والاتحادات والنقابات. وقد أدى ذلك إلى زيادة تأثير اللجان الفوق سياسية (PACs) التي يمكنها جمع وتبرع بمبالغ كبيرة من المال لدعم أو معارضة المرشحين. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الثروات المتراكمة في قطاع التكنولوجيا في تعزيز هذا النفوذ.
تظهر تحليلات البيانات اتجاهاً واضحاً نحو الجمهوريين، حيث ذهب أكثر من 80% من إنفاق أغنى 100 أمريكي في عام 2024 لدعم مرشحين جمهوريين. وقد حصل دونالد ترامب على تمويل يعادل 15 ضعف ما تلقاه في حملته الأولى عام 2016، مما يعكس الدعم المالي الكبير الذي يحظى به من قبل هذه النخبة الثرية.
دور المليارديرات البارزين
برز عدد من المليارديرات كجهات مانحة رئيسية للحزب الجمهوري. فقد ضخ إيلون ماسك وحده 294 مليون دولار لدعم الجمهوريين في الانتخابات الفيدرالية والولائية. وانضم إليه عشرات المليارديرات الآخرين من وادي السيليكون والقطاع المالي، مما أدى إلى تحول ملحوظ في التوجه السياسي لهذه الكتلة الثرية.
يعزو هؤلاء الأثرياء تحولهم إلى قلقهم المتزايد بشأن السياسات التنظيمية التي تستهدف التكنولوجيا، وإيمانهم بأن نهج الجمهوريين في مجالات مثل الضرائب والذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، وتخفيف الرقابة الفيدرالية، يتماشى بشكل أفضل مع مصالحهم الاقتصادية.
تزاوج المال والسلطة داخل الحكومة
لم يقتصر تأثير الأثرياء على التمويل السياسي، بل امتد ليشمل شغل مناصب حكومية. فمن بين 902 مليارديراً أمريكياً، شغل 44 منهم أو من أزواجهم مناصب حكومية أو تشريعية خلال العقد الماضي. وفي إدارة ترامب الحالية، يشغل حوالي 12 مليارديراً مناصب رفيعة، مما يجعلها أغنى إدارة في التاريخ الأمريكي، حيث تبلغ ثروتها الجماعية حوالي 7.5 مليار دولار، أي أكثر من ضعف ثروة إدارة ترامب الأولى و64 ضعف ثروة حكومة بايدن.
وقد ساهم الأثرياء أيضاً في تمويل مشاريع حكومية بشكل مباشر. فقد موّل ما لا يقل عن 10 مليارديرات إنشاء قاعة احتفالات جديدة في البيت الأبيض بقيمة 300 مليون دولار. وخلال إغلاق الحكومة الأخير، قام الملياردير تيموثي ميلون بتمويل رواتب الجنود عبر تبرع شخصي كبير، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة.
تغيير قواعد المنافسة السياسية
أصبح المال عاملاً حاسماً في اختيار الأحزاب لمرشحيها. فالقدرة على جمع الأموال، أو الوصول إلى شبكات مانحين كبار، أصبحت شرطاً أساسياً للترشح سواء في الحزب الديمقراطي أو الجمهوري.
وقد تجلى ذلك في سباق مجلس الشيوخ بولاية أريزونا عام 2022، حيث ضخ الملياردير بيتر ثيل 15 مليون دولار لدعم صديقه بليك ماسترز، مما قلب المعادلة داخل الحزب الجمهوري. وفي انتخابات نيويورك الأخيرة، حاول أثرياء مؤثرون منع المرشح اليساري زهران ممداني، إلا أنه فاز رغم الحملة المضادة، معتبراً هجوم المليارديرات عليه “وسام شرف”.
القلق الشعبي من هذا النفوذ المالي المتزايد يتصاعد. فقد أظهر استطلاع حديث أن غالبية الأمريكيين تنظر بشكل سلبي إلى تأثير الأموال في السياسة، وأن ثلثهم يرى أن الوضع سيئ جداً. وقد استغل السيناتور بيرني ساندرز هذا المزاج من خلال جولات “مكافحة الأوليغارشية” التي حضرها أكثر من 280 ألف شخص. وبات مصطلح “الأوليغارشية” يستخدم بشكل متزايد في الخطاب السياسي الأمريكي لوصف حالة أصبح فيها المال يحكم السياسة.
من المتوقع أن يستمر النقاش حول دور الأموال في السياسة الأمريكية في التزايد، خاصةً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية. وستراقب الأوساط السياسية والإعلامية عن كثب مصادر التمويل للحملات الانتخابية، وتأثيرها على السياسات العامة. كما ستتابع تطورات أي قوانين أو مبادرات تهدف إلى تنظيم التمويل السياسي وتقليل نفوذ الأثرياء.
